سنوات الاستثمار الحقيقي

عمر الفهدي

لا زالوا يدورون في حلقة نفس الروتين اليومي منذ أول يوم وصلوا فيه إلى الجامعة؛ غير أنّ الاختلاف هنا أنهم كانوا ذوي آمال واسعة، وها هم أمامي الآن وظهورهم تبدو خانعة كالمسنين.

هؤلاء هم من نسوا أهدافهم في الحياة من طلاب الجامعة، ولا أنكر أنّي واحد منهم؛ فقط آمل أن يعافيني الله عزوجل مما ابتلى به غيري، ويزيد يقيني؛ مع علمي أننا نعيد نفس الدائرة ها هنا اليوم، فمن منا لا يستحضر ذلك الطفل في أول يوم من أيام المدرسة بعينين متوهجتين، وروح مليئةٍ بالطاقة، وما يلبث ذلك الطفل إلا أن يتمنى إنهاء المرحلة الدراسية بأي مجموع.. لكي نصل لسؤال حقيقي، هل سنعيد نفس الخطأ بدخول المرحلة المهنية بروح الطفل ثم ندخل طور عجز المسنِين؟.!

ربما يبدو لك عزيزي القارئ أنني سأتحدث عن المرحلة المهنية، إلا أني أوقن بشدة أن استغلال سنوات الجامعة سيجنبنا تلك الدائرة الكئيبة. فما تحويه من مساحات وقتية للطالب كفيلة إذا استغلها جيدًا بأن تُؤسس له قواعد في أساسيات الحياة وإن كانت نظرية، فالمطالعات المثمرة والأنشطة الفعّالة والعلاقات المتبادلة لها الأثر العظيم الذي لا يخفى على عاقلٍ أريب كما لا يخفى عليه أيضاً أنّ ذلك ليس سهلاً.

وأذكر أنني في أحد الأيام وبينما زملائي في الجامعة يتحدثون كالمعتاد عن يومهم الدراسي، قلت لهم: لماذا نعيش نفس النمط اليومي الرتيب؟ وفي الجامعة علوم وآداب وذوق وعلاقات وفرص ودورات وأنشطة تفيد الجميع؟ فعمّ صمت ثقيل صاحبته نظرات إليّ وكأنني من كوكب آخر، وأذكر مرة أني قلت نفس الكلام ورد عليّ أحدهم: (ولد الحلال خلينا نخلص ذي الدراسة وبس).

لاريب أنّ الدراسة تحمل من وقت الإنسان القدر الجيد من الوقت الذي قد يجعلك ناجحًا في مهنتك ولكن قد تكون مشتتاً في علاقاتك غير قادر على الحوار مع الآخرين وذا خبرةٍ محدودةٍ في الحياة؛ حيث يغيب عن كثير من الطلاب أن بعد السنوات الدراسية سيدخلون إلى جو العمل المهني، وفيه سيلقون صنوفًا من الأمور والمطبات التي قد لا يستسيغها أبداً كالمدير المتسلط وزميل العمل المتسيب وعامل الضغط المستمر، فهل وعَّى نفسه بكيفية التعامل مع هذه القضايا؟ وهناك أيضاً جانب آخر يجب على الطالب استحضاره، وهو أنه في المستقبل سيدخل في جو الحياة الزوجية، فينتقل من مسؤولية اتخاذ القرار لنفسه فقط إلى اتخاذ قرار يتحكم في أسرته، وأنّه قد يواجه شريكًا ليس بالضرورة يتشارك معه نفس الآراء والتوجهات، فهل هو مستعد لقيادة دفة الحوار بالطريقة السليمة؟

ولا أنكر أنّ سؤالا مفزعًا بحق تبادر لي مؤخرًا؛ وهو ما مدى معرفتي بالثقافة المالية وإدارة الدخل والمصروفات والاستثمار؟ بالتأكيد هذا سؤال مخيف إذا كانت ثقافتك المالية ضحلة مثلي، ولهذا عقدت العزم على تكثيف مطالعاتي في هذا الجانب في سنتي الأخيرة من الجامعة. وقد يقول قائل لِمَ هذه المبالغة؟ كل الأمور التي ذكرتها سأتعلمها وأنا أعمل، وهنا أقول إنّ عدد المسؤوليات التي ستتحملها بعد الجامعة ستكون أكبر بكثير من التي تتحملها الآن، فلماذا لا تستغل الأوقات الكثيرة والصفاء الذهني الذي تتمتع به الآن؟

ولا يفهم من كلامي أن تهمل الدراسة، فهذا أمر مرفوض، بل أن يوازن الإنسان في يومه. فالحياة الجامعية يجب أن يستغلها الطالب في تنمية شخصيته واكتساب المهارات الرئيسية في الحياة، وأن يتنبأ باحتياجاته في المستقبل ويُعد لها العدة، ويخطط من أجلها، فهذا كفيل أن يجعل منه منارة مضيئة وسط ظلمة المحيط.

تعليق عبر الفيس بوك