محطات: سيد المطر.. أي قدر هذا؟!

المعتصم البوسعيدي

"يعاني من اضطرابات في الذاكرة والكلام منذ إيقاظه من حالة الغيبوبة الاصطناعية، وهو مشلول، ويتحرك بواسطة الكرسي المتحرك" بهذه الكلمات كشف السائق الفرنسي السابق فيليب سترايف الصديق المقرب لميخائيل شوماخر أسطورة (الفورمولا 1) الحالة التي وصل إليها البطل الألماني بعد تعرضه في ديسمبر 2013 لجراح بالغة في الرأس أثر اصطدامه بصخرة أثناء ممارسته رياضة التزلج، وهو في رحلة استجمام مع عائلته في جبال الألب، وسترايف هذا هو الآخر رجل مقعد بعد تعرضه لحادث خلال الاختبارات التمهيدية في أواخر الثمانينيات، فأي مشهد هذا الذي أبدأ منه الحديث عن صاحب الأداء الموصوف "بكاتم الأنفاس".

شوماخر ابن الستة والأربعين عامًا مارس الرياضة طوال ما يقارب الأربعين سنة إذا ما علمنا أنه بدأ من سن الرابعة عندما قرر والده أن يدخله "سباقات الكارت" وهي نوع من أنواع سباقات السيارات مع أربع عجلات صغيرة" في رحلة تعتبر البداية للدخول في عالم المحركات، وفي سن الخامسة عشرة ومع أدائه الجيد قرر أحد رجال الأعمال دعمه ماديًا في خطوة جعلت منه يتقدم كثيرًا ويسابق قدراته مع دخول السباقات العليا، وحين نتوقف قليلاً مع هذه المحطة من حياة هذا البطل يظهر لنا جليًا الاهتمام الأسري لقدرات الأبناء والنظرة الشاخصة المتفحصة لمواهبهم، إضافة للصقل والتدريب والتأهيل ووجود الحاضن الجيد للموهبة من الكشافين والمؤسسات الرياضية وحتى من المستثمرين وهذا ما اثبته تبني رجل الأعمال لهذا الشاب الموهوب ودعمه ماديًا وقد يكون هذا باب من أبواب "الحظ" كما حدث أيضًا لدخوله عالم "الفورمولا1" عندما زُجَ بسائق فريق جوردن بيرتنارد غاتشود للسجن فسُنحت فرصة ذهبية لمجموعة من السائقين عرف ميخائيل كيف يقتنصها لتكون بوابة عبوره للنجومية، ورغم ذلك يجب أن نتذكر دائمًا".. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا".

لقد بدأ شوماخر عالم "الفورمولا1" في العام 1991 مع فريق "بينيتون" ومن الصدفة أن يكون أول سباق له ببلجيكا كما أنّ أول فوز له لسباق في تاريخه كان أيضًا بها لكن في العام الذي يليه، لقد دخل شوماخر العام الثالث بأهمية بالغة، حيث تقدم بالتصنيف ليحل رابعًا عند نهايته داخلاً به العام 1994 والذي كان متقلبًا بالأحداث الكثيرة منذ البداية، حين شهد هذا الموسم فوز شوماخر بأول سباقين ثمّ دخوله السباق الثالث بسان مارينو السباق الصادم في تاريخ "الفورمولا1" بعدما راح ضحيته الأسطورة ايرتون سينا على أن شوماخر فاز أيضًا بهذا السباق، تبع ذلك صعوبات وعقوبات مفروضة على البطل الألماني لكن مع نهاية هذا الموسم أصبح بطلا للعالم، ويمكن القول هنا أنّ المضي نحو القمة يمر عبر تحديات كبيرة هي المكون الأبرز لشخصية الأبطال، تمامًا كما حدث لشوماخر فسنته الرابعة والخامسة في "الفورميلا1" توجتاه بطلاً جديدًا، وشكلتا عهد ملكًيا سيحطم بعد سنوات قادمة الأرقام القياسية بشكل مُذهل.

التحول الكبير في مسيرة شوماخر هو انضمامه لفريق "فيراري" رغم أنّ الفريق لم يفز بلقب العالم منذ عام 1979 وبلقب "الصانعون" منذ عام 1983، لكن الأمر لم يستمر طويلا مع الأسطورة الذي صنع مجده في الألفية الجديدة وحقق خمسة ألقاب متتالية (2000 -2005) محطمًا معها الأرقام القياسية بسبعة ألقاب في بطولة العالم والأكثر فوزًا تواليًا، وحصل على لقب أسرع المنطلقين، وأسرع لفة، وأصبح من أكثر الرياضيين تأثيرًا وأكثرهم أجرًا، وأُعلن بأنه شخصيّة "ذا ستيج" الشهيرة ونال جماهيرية طاغية على مستوى العالم.

قرر الاعتزال لأول مرة في العام 2006 وفي هذا العام بالتحديد حصل على اعترافات كبيرة في آخر سباق خاضه لهذا الموسم بالبرازيل، والمدهشان الإعجاب ليس لفوزه بل للقدرة التنافسية التي تجلت بعدما انطلق من المركز العاشر بسبب عطل في ضغط الوقود بالتجارب الرسمية ثمّ سريعًا انتقل شوماخر للمركز السادس لكن سوء حظه عرضه لثقب في الإطارات أجبره لدخول الحظيرة، وبالتالي تراجع للمركز التاسع عشر، ضغط شوماخر بقوة عالية ووصل للمركز الرابع عند خط النهاية مما جعل الصحافة تصنف أداءه في هذا السباق الختامي "بالبطولي" بل وأكثر من ذلك حين قيل إنّ: "الأداء الذي يلخص حياته المهنية" تراجع شوماخر عن اعتزاله وعاد للمقود عام 2010 مع فريق "مرسيدس" لكنه سرعان ما اعتزل نهائيًا في العام 2012 وظلت أرقامه هي الأعلى بالأكثر انتصارات بـ 91 والأكثر اعتلاءً للمنصات بـ 154، وبـ 68 انطلاقة من المركز كأكثر من فعل ذلك. عُرف شوماخر بإنسانيّته الجميلة وهو أحد رفقاء الظاهرة الكروية البرازيلي "رونالدو" في مشروعه مع النجم الفرنسي زين الدين زيدان ورفقائه أيضًا حيث تُلعب مباريات دورية من أجل دعم عدد من المشاريع الخيرية، وقد أثبت شوماخر أنّه يمتلك مهارات كروية لا بأس بها، ولكنها ليست بالتأكيد كقدراته على حلبات السباق والتي لُقب فيها "بسيد المطر" نظير قدرته العجيبة في السباقات التي تقام بالأجواء الرطبة، وشوماخر وسط هذا الصخب الكثير يتقن التحدث بأربع لغات هي الألمانية، الإنجليزية، الفرنسية، والإيطالية، وهو درس كبير لرياضينا ولنا جميعًا، فالرياضة مدرسة كبيرة للتعلم ومجال واسع للأخذ بيد الآخرين.

اليوم كما ذكرت في البداية يعيش هذا "الشجاع" بالجسد المشلول والذاكرة المهترئة والصمت الشاحب، والعبرة ولدت حتى في غيبوبته التي تزاحم العالم لمعرفة نتائجها، فالطب معهم تعامل مع هذه النفس كقيمة عالية لا بد من الحفاظ عليها بغض النظر عن كونه "بطل قومي" بل هي نفس تستحق أن تعيش رغم مشهد الإصابة والجراح الباعثة لليأس، وللأسف نعيش نحن في عالمنا الإسلامي والعربي مشهد القتل والدماء المباحة وكأننا نشاهد أفلام "أكشن" ننتقل عبر "الريمونت كونترول" من فلم إلى فلم مع علبة "فشار" وزجاجة مشروب غازي أو عصير!! ألم أقل لكم: سيد المطر، أي قدر هذا الذي جمعني بك، وأنا أراكَ من خلال أمتي الظالمة لنفسها.

تعليق عبر الفيس بوك