صوتك إذاعي!

ليلى البلوشي

أظرف التعليقات التي قيلت لي، ولعلها أحلاها أيضا كانت عن حنجرتي، عبارة عفوية، سمعتها مرارا بتقدير في أكثر من جلسة ثقافية، كان آخرها يوم الخميس الماضي في المقهى الثقافي في مهرجان الشارقة القرائي للطفل بعد تقديمي لجلسة الدكتورة نعيمة حسن النجار التي طوقتني بالعبارة إياها بمحبة عميقة: "ليلى صوتك إذاعي".

الإطراء نفسه عزّز بعبارة أكثر إغواء من آخرين أثناء تقديمي لهم: "هذا الصوت يجب أن يقرأ الشعر".

هذه التعليقات التي التقطتها أسماع معظم الحاضرين في سقوف تلك القاعات التي احتوتنا، كانت تلف الفرح حول قلبي الصغير في كل مرة بغبطة كبيرة؛ لكن في الوقت نفسه تركتني أحلق معها بعيدا، جعلتني أؤثث في داخلي أمنية كبيرة، مجنونة، ومستحيلة، لكن لكونها أمنية، ولأن الخيال الخارق يتكفل بكل جنون العالم ومستحيلاته، ولأنها لا ولن تؤذي أحدا بل ربما ستمتّعهم، ووحدي أجني عاقبتها خيرًا أم شرًا حين تتبدى أمامي، كل ذلك أغراني في أن أتشبّث بأمنيتي بتوق أكبر، أردد وأنا مطبقة على أجفاني كالصبي الحالم في فيلم "طوق الحمام المفقود" الذي يجثو على ركبتيه كفارس أمام وردة حمراء يانعة مطبقا على جفنيه ببراءة فائضة مقربا رأسه الصغير منها؛ لأنه أدرك بخياله الطفولي الفضفاض بأنها تحلم وهو يريد أن يسرق منها حلمها.

أما أنا بكامل خشوعي طوال درب أمنياتي سأردد: لو أنّ لصوتي مقومات أكبر، لو أنّ حنجرتي تغدو سحرية كبطل شخصية الكاتبة الألمانية "كورنيليا فونكه" في روايتها الخيالية البديعة "قلب البحر" الرجل، الأب، الذي كانت حنجرته فائضة بحكايات الكتب التي يسكبها بمنتهى الشغف في روح ابنته، الطفلة الصغيرة، التي اعتادت أذنيها على سماع الحكايات، والنوم على نبرة أبيها المضمخة بدفء القصص، لعلّ هذا الإصغاء منها، ولعلّ صوت الأب المخلص أثناء القراءة، الصوت الذي يمنح كل كلمة حقها، ويضع كل فتحة وضمة واستفهام وتعجب في موضعها الصحيح، وكل فقرة يسردها بطلاقة تجنّب شخصيات الكتاب عاهات سوء القراءة، وأكثر من ذلك أيضّا هي التي منحت صوته موهبة فذة في إخراج الشخصيات من قلب الرواية التي كان يتماهى مع شخوصها بحسّه المذهل، هذه الموهبة المكلفة، الموهبة الغريبة، والباهرة، من لا يرغب بها؟

مهما بدت خطورتها لا يمكن أن يرفضها قارئ كتب مفتون بالحكايات التي يتلقاها ويعيشها كما لو أنّها تخصه، كما لو أنّ تلك الشخصيات كانت معه دائمًا كأصدقاء، وعشاق، وأعداء كذلك!

وما أكثر الشخصيات التي أريد أن انتشلها من الكتب بصوتي، أرغب في أن أتأبط ذراعيها ونمضي معا إلى عالمها الغامض، أن أجس خيباتهم عن قرب، أن أطير مع خيالاتهم، أن أطبطب على دموعهم، أن أتجمّل، واكتئب، أرقص، أغني، أتأمل، أنام وآكل، اكتب، واقرأ لهم ومعهم، أن نتلقى الحياة ونتعاطى معها بروح المغامرة التي تقتحم أرواحنا بخيالات مبهجة!

"كوزيت" بطلة رواية "البؤساء"، "آنا كارنينا" رائعة "ليو توليستوي"، "جريجور سامسا" بطل العبقري "كافكا"، زوجة الطبيب المبهرة في رواية "العمى "لـ"ساراماغو"، تلك الأمنية التي تندفع بحماس طفل هاجسه الاكتشاف، فأجدني في جولة مع "أليس في بلاد العجائب" ونتآمر معا ضد الأرنب الأبيض، فأحوله إلى ملوخية شهية، وأعلق ساعته التي كان يثبتها على جيب معطفه الأسود كرجل أنيق على حائط المطبخ كذكرى، وحين أشرع صفحات أكبر كتاب ضخم في مكتبتي المعنون بـ "أين كانوا يكتبون؟" و الذي يحوي بين جنباته ذكريات خالدة، صور بيوت، غرف، ردهات، وحدائق أشهر الأدباء في العالم، حينها أريد أن تستحيل غرفتي الصغيرة -كما يشاء صوتي الجبّار- إلى غرفة كتلك الغرف المأهولة ببصمة من دوّنوا التاريخ على هيئة حكاية مكتوبة فاخترعوا خلودها الأبدي، فتمتزج روحي بعطر ساكنيها وعرقها، بأرواح من سلموا رقابهم للحكايات التي كانوا يقتاتون عليها؛ لأنهم آمنوا بأنها وحدها من ستعتني بهم بوفاء خالص حين يسلمون الرمق لرب الكون، فيسحبني صوتي إلى غرفة "مورافيا" التي تطل على البحر شاسع في عزلته الرهيبة، اكتب فحسب، وحين أتعب، أتأمل الكائن الأزرق بصمته المهيب أمامي، وحين أقلب الصفحة على منزل "أرنست همنغواي" أتجول في ملكوته، وأمام طاولة الكتابة في مكانه ذاك، وعلى هيئته الواقفة تماما حين كان فكره ينقل من قلب العاصفة رواية الشيخ والبحر آخذ غليونه وأنفث الدخان على ذكرى الرصاصة التي فشلت في مهمتها؛ فلقد بقي صاحبها حيّا رغم أنف المسدس الغدّار!

وفي عالم "فرجينيا وولف" الذي يغلب عليه طابع الوحدة التامة سأنضم إليها وهي في طريقها إلى حتفها، إلى نهر أوز؛ كي أوقفها في آخر ثانية من زمن الحتف كما يحدث في الأفلام عادة، فأحرر جيوب معطفها من الحجارة لتتحرر بدورها من ثقلها، أوقفها لأقودها من يدها وهي منصاعة تماما كدمية مطيعة بعد صدمة النجاة إلى غرفتها الخاصة للكتابة حيث تترقب كل جزء منها انفجارها الإبداعي، وأقنعها بكل ألفاظ الأمل التي كنت أنمّيها في جوفي كلما سقطت بأن قراءها، قراءها المخلصون سيتعافون بفضل كلماتها وحدها رغم أنها مفقوءة بالجرح؛ لأنها صادقة كحد سكين!

وبلا ريب سينحني صوتي بإجلال أمام "ليزل" بطلة "سارقة الكتب" للروائي "ماركوس زوساك" يتيمة الحرب التي قهرت ضربات المدافع بصوتها الحكائي المطمئن، صوتها الذي أرغب دائمًا في استعارته حين أنكسر، صوتها الذي خلق ليضمّد الأحزان ويرممّ أرامل القلوب، الإجلال عينه سيكون ممزوجًا بالنبل أمام الروائي "إنريكو دي لوكا " أمام رائعته "اليوم ما قبل السعادة" وأحد أبطاله الرائعين "دون رايموندو" - بائع الكتب المستعملة - الذي كان يعيرها للطفل الصغير بلا مقابل؛ ليقينه التام بأن الكتب وجدت لتُقرأ، اليقين نفسه الذي جعله أروع بائع للكتب المستعملة يمكن لقارئ أن يلتقيه، العم "دون رايموندو" الذي أخبر الطفل الصغير إياه بأن أعمق الحسرات التي صادفها في هذا العالم المثقل بعار الحروب، هو فراغ جدار كان يسند يومًا، في زمن ما، مكتبة مباعة!

يااااه، كم أنا حالمة. وكم خلاّقة هي الحكايات حين يكون لها صوت جبّار!

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك