نقد الحال الراهن (4) الشطارة

د. صالح الفهدي

استقبلنا بوجه متكلّف البشاشة، متصنّع الورع، ليسألنا وقد نزلنا للتوّ لأداء العمرة في أطهر بلاد الله، يسألنا بابتسامة صفراء: تاكسي؟ قلنا له: نعم.. فجرّنا وراءه مسافة بعيدة تخطّينا فيها مواقف سيارات الأجرة، حتى أوصلنا لسيارة متّسخة، متقضقضة الزجاج، يرثى حالها، ركبنا فيها على مضض، فانطلق بها مقلّبا مسبحته بين آونةٍ وأخرى ومرددا كل حين أزكى عبارة تتعطر بها شفاه إنسان"لا إله إلا الله"، يا لعظمة كلمة التوحيد التي طهرت الأرض من الأرجاس والقلوب من الأدناس، والعقول من السخافات، لترتقي بها طاهرة، زكيّة.

وصلنا الفندق فإذا به يطلب خمسة أضعاف السعر مستغلا جهلنا بالتكلفة الحقيقية، خالعا كل الأقنعة التي تزيّأ بها منذ دقائق، وتلك التّأوهات الروحيّة، أعدت شريط الدور التمثيلي الذي قام به هذا الرجل في ذهني فوجدته يطابق صورا كثيرا صنّفها الضمير كدروسٍ يجب الحذر منها..!

يصعب على المرء أن يقول: إنّك ما إن تنزل في بلادٍ مسلمة حتى يرجف قلبك لأنك تتوخى النصب والاحتيال، فما إن تخطو خطواتك الأولى في المطار العربي حتى يتقدّم إليك أحدهم بوجهٍ باشٍّ، يعاملك بدماثةٍ، ويخضع لك الجناح تواضعا لخدمتك، لـ "يضبّط لك الدنيا" فماذا تريد بعد تضبيط الدنيا لك؟! لكنك سرعان ما ستكتشف أنه وبدلا من تضبيط الدنيا لك يضبّطك أنت بكاملك..! وذلك بالاحتيال والنّصب والغش والإبتزاز..فتتلقى أول صفعةٍ لك في دار المسلمين الآمنة التي تنتمي إليها خاصة بعد أن قرأت الآية الكريمة المعلقة "أدخلوها بسلامٍ آمنين" فأدخلت السكينة في قلبك وليس السكّينة..! قال لي أحد الأصدقاء: ما كدنا ندخل حدود دولةٍ عربيةٍ حتى خرجنا منها على الفور، سألته: لماذا؟ أجاب: تم الاحتيال والنصب علينا على الفور! قلت له واجب الضيافة..!

أصبحنا - وهذا الكلام ثقيل على النفس أيضًا- نطأ ديار الغرب فنشعر بأمانٍ أكثر من ديار مسلمين نتوسّم فيهم الصدق والأمانة وحسن المعاملة ومراعاة حق الأخوة في الإسلام وغير ذلك مما يحضّ عليه الدّين، لكننا لا نأمن على أنفسنا من أولئك المتربصين المقنّعين الذين يتمظهرون بحسن التعامل، ولطف الجانب، ويحسنون التلفظ بالعبارات الترحيبية، وترديد الآيات والأحاديث، وكيل الثناء والمديح، حتى قضاء مصالحهم، حينها يكشّرون عن أنيابهم، ويلقون ضحاياهم على قارعة الطريق، بعد أن أذاقوهم الويلات من السبّ واللعن.

كم تعرّضنا وتعرض غيرنا للنصب والسلب والسرقة والاحتيال من "إخوتهم" المسلمين الذين لم يتورعوا في استخدام شتى السبل للايقاع بفرائسهم بغيّة تحقيق الربح المادي المزيّف دون تأنيبٍ من ضميرٍ، ولا وازعٍ من إيمانْ..! وفي المقابل فإننا لم نتعرض ولم نسمع وقوع نصب واحتيالٍ في الغرب لأن الثقة والصدق والأمانة تسود هناك حيث كان يجب أن تسود في بلاد الإسلام وتتكرس في معاملات بني الإسلام..! تشتري سيارة مستعملةٍ من معرضٍ عربي فلا يضمنها لك، وتشتريها من معرض أوروبي فيضمنها لك ستة أشهر..! ولو أن الأوّل كان صادقا، واثقا لمنحك الضمان..! يأتينا قائل فيقول: لكن الغرب يمارس النفاق والازدواجية والتدليس فنقول له نعم ولكن ذلك على صعيد مصالح الدول التي تراعيها، وعلى مستوى السياسة التي تمارسها، إنّما نتحدث نحن عن المجتمعات والشعوب.

يروي صحفي غربي يعمل في "ناشيول جوجرافيك" أنّه زار بلادًا عربية لإنتاج فيلم وثائقي، وصادف شابا عرض عليه الخدمة دون مقابل، فاستغرب الغربي من كرم العربي، ولكنه تذكر أنّ الكرم والمروءة من عادات العرب، فلمّا انتهى العمل إذا بالشاب العربي يطالبه بأجرته فصدم الغربي من هذه المفارقة الغريبة إذ طلب منه مبلغا لم يكن محسوبا ولا متوفرا حتى تدخّل شيخ القبيلة الذي هو والد الشاب فحسم الأمر بدفع مبلغٍ أقلّ مما طلب الشاب لكنّه في غير حسبان الأجنبي المصدوم الذي حسب كلمة الشاب العربي صادقة لا مراوغة فيها، فذهب ليكتب افتتاحيّة في مجلّة "ناشيونال جوجرافيك"..!

وللأسف فإن المسلم قد أضاع الثقة بالمسلم دون تعميم، حتى أنّ بعضهم أصبح يتحاشى التعامل مع "أخيه" المسلم خوفا من الإبتزاز والتحايل، وما كان الحال ليصل إلى فقدان الثقة لو أنّ هؤلاء المسلمين راعوا الأمانة ووضوا الحدّ الفاصل الذي رسمه النبي صلى عليه وسلم نصب أعينهم حين قال: من غشّنا فليس منّا..! وقوله صلّى اللّه عليْه وسلّم:"منْ باع عيْبا لمْ يبيّنْه لمْ يزلْ في مقْت اللّه ولمْ تزلْ الْملائكة تلْعنه"[1]، وما أكثر البضاعات التي تباع في البلاد العربية وهي مليئة بالعيوب ثم لا تردّ بينما يستغلّ بعض المسلمين ميزة قبول استرداد البضاعة في الغرب إلى نحو ثلاثة سنوات فيعيدها بحجّة عيبٍ فيها أحدثه بنفسه ليستلم بضاعة جديدة يعود بها غانمًا إلى وطنه من "ديار الكفر"..!

يقول الشيخ محمد راتب النابلسي في معنى الحديث الشريف:" معنى هذا أنّ الدين شيء كبير, الدين منهج قويم, الدين يدور معك أينما ذهبت, الدين ليس في المسجد, الدين في التعامل اليومي، أظهر مظهرا له في حرفتك, هناك مظهر صارخ للدين, هناك مظهر حقيقي، المظهر الصارخ تصلي في المسجد, أما مظهره الحقيقي وأنت في دكانك, وأنت في التعامل اليومي, ودائمًا الإنسان الله عز وجل يمتحنه بإنسان جاهل.. الباعة من أين يؤخذون؟! يأتي زبون جاهل يمكن أن تبيعه أسوأ بضاعة بأعلى سعر، ما الذي يمنعك من ذلك؟! خوفك من الله عز وجل, لذلك تنصحه, تقدم له أفضل البضاعة بأحسن سعر، هذا المؤمن, أما حينما يستغل جهل الشاري، ويرفع السعر، ويعطيه أسوأ بضاعة، هذا دخل في الغش".

كم من "إخوتك" في الدين وبني جلدتك من يتصل بك ليسألك: هل سمعت عن الجهاز الفلاني؟! ليمنحك وليمة لن تنسى طعمها فيما بعد..! وكم من يقابلك في السوق ليقول لك: تعال استلم جائزتك، فتحسب أنك قد أنجزت عملا يستحق الجائزة الممنوحة، فإذا بالجائزة هي إيقاعك في الفخّ وابتزاز أموالك، والتحايل عليك..! حتى الدّين لم يسلم فتجّاره كثر بعضهم يقيمون الصلوات بالناس والخطب المؤثرة ثم يبتزون أموال الذين يرتجون الشفاء بآيات الله..! أولئك مسلمون وأنت مسلم ولكنّك ضحيّة كغيرك بالنسبة لهم، فإن لم يراعوا فيك ذمّة فكيف بالغريب..؟!

من المؤسف تفشّي مرض "الشطارة" الذي يعني عند كثيرين ممن يحسبون أنفسهم بالشطّار اصطياد الضحايا بالدهاء والخبث، والحيلة والمكيدة، يقول د.عبد الحميد سلوم:" ينادي المنادي للصلاة يوم الجمعة بكلمة (الله أكبر) وهي غير (الله أكبر) التي ترمز لقطع الرؤوس وإطلاق القذائف وتفجير المفخخات والسيارات لقتل عباد الله ممن باتوا يخشون سماعها... فيذرون البيع ويذهبون للصلاة وما إن يعودوا لعملهم حتى يعودوا للكذب والغش والاحتيال واستغلال عباد الله.. وشعارهم (البيع شطارة) وهذه لا علاقة لها بالأخلاق ولا بالقيم المجتمعية والدينية، ولا علاقة لها بالفحشاء والمنكر الذي يفترض أن الصلاة تنهى عنه.. الأمر ذاته ينطبق على كل أوجه الحياة في المجتمعات العربية الإسلامية وقد يتجاوزها لبعض المجتمعات الإسلامية الأخرى، سواء ضمن علاقات المجتمع أم مؤسسات الدول، فالضمير معدوم في العمل والاختيار والعلاقات والتعامل والتزكية وما شابه ذلك" ...

مرض الابتزاز بإسم الشطارة يتفشى في مجتمعاتنا الإسلامية لأنّ من يمارسه أضعف وجود الله في قلبه، فهانت عليه أوامره ونواهيه، وسهلت عليه سنّة نبيّه، فبحث عن ثغرات في نفسه لا في القانون، أو تستّر بالدهاء لينصب ويحتال. هان عليه دينه، ونفسه ولقمة عيش الذين يطعمهم فلا بركة تكتب له من ابتزازٍ موهوم، ولا رزق يدوم له من نصبٍ مزعوم، وهو فوق ذلك تتكالب عليه الهموم.



[1]رواه ابن ماجه عن واثلة بن الأسقع

تعليق عبر الفيس بوك