أولويَّة الإجابة عن أسئلة الحاضر

علي فخرو

في لقاء في بيروت مع إخوة من المفكرين والمثقفين العرب، طرحتُ السؤال الآتي: ما مُهمة مراكز البحث والدراسات العربية -ومن في داخلها وخارجها من المفكرين والمثقفين العرب- في الوقت الحاضر الذي تعيشه الأمة العربية؟ هل يستمرون في نحت منحوتاتهم الفكرية الكبرى -من مثل: العقلانية، والحرية، والعلمانية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة...وغيرها- أم يتفرغوا للإجابة عن أسئلة مهمة جديدة طرحتها حراكات وتفاعلات ونتائج "الربيع العربي"، وأصبحت على ألسنة الكثيرين من شباب تلك الحراكات؟

الأسئلة الجديدة التي تُطرح ليست في مُعظمها معنيَّة بأفكار وأهداف وأحلام الأمة النظرية الكبرى التي نوقشت عبر القرنين الماضيين، والتي تقبع في أفق المستقبل البعيد، ليس لأن تلك الأفكار والأهداف والأحلام غير بالغة الأهمية، وأن الوصول إليها يمكن تأجيله، وإنّما لأنهم كمناضلين وثوار يتحسّسون طريقهم يومياً في معارج وظلمات الحاضر الراهن الذي يصرخ فيهم: وماذا عن الحاضر والغد القريب؟

لقد ذكرت مثالاً صارخاً لسؤال يطرحه على أنفسهم يومياً الكثير من المواطنين وشباب حراكات الربيع العربي: إنه سؤال الديمقراطية. إنهم يقولون إن أحداث السنوات الأربع الماضية قد أظهرت أن الانتقال إلى أنظمة ديمقراطية مشابهة لتلك الأنظمة الممارسة في المجتمعات الديمقراطية العريقة تتحداه جوانب من تاريخ الأمة، ويتحداه الواقع الذي أفرزه ذلك التاريخ.

فتاريخ الحكم في كل بلاد العرب، قديماً وحتى حديثاً أحياناً، قام على مبدأي الغلبة والاستئثار بالسلطة. ومن أجل إضفاء الشرعية على ذلك كان لابد من الاعتماد على جماعةٍ ما في المجتمع، أحياناً أقلية وأحياناً أكثرية، تُقدَّم على غيرها وتُمنح امتيازات مادية ومعنوية أكثر من غيرها لأسباب عرقية أو مذهبية أو قبلية أو مصلحية بحتة.

ونتيجة لكل ذلك، وجدت في مقابلها جماعات أخرى تشعر بالغبن والظلم والتهميش، وهي تختزن في باطنها الجمعي غضباً يجعلها غير قادرةٍ على انتظار مجيء الديمقراطية الكلاسيكية لتنصفها من خلال مفاهيم المواطنة المتساوية وغيرها. إنها تريد المشاركة في السلطة والامتيازات في الحال لرد تلك المظالم وإنهاء ذلك التهميش.

ويطرحُ ذلك الواقع العربي سؤالاً آخر يتعلق بكيفية التعامل مع أنظمة الحكم التاريخية الممتدة في القرون العدة الماضية وكيفية احتواء ذلك، بتراضٍ ومن دون عنف، في الأنظمة الديمقراطية المستقبلية. ومن هنا، يتساءل هؤلاء المواطنون والشباب عن نوع من الديمقراطية الانتقالية، المبنية على التصالح والتشارك والتمثيل الانتخابي في آنٍ واحد؛ بحيث تكون مدخلاً مؤقتاً يسبق الوصول إلى الديمقراطية الكلاسيكية الناضجة.

وهنا، يأتي الدور المطلوب لمراكز الدراسات والمفكرين، وهو تقديم إجابات عن تلك التساؤلات في القريب العاجل. ولعلهم ينطلقون للوصول إلى الإجابات المطلوبة من دراسة نقدية لبعض المحاولات العربية في بلدان من مثل تونس والمملكة المغربية ومصر والأردن، وصولاً إلى تصورات قابلة للتطبيق ومؤدية في النهاية إلى انتقال مجتمعات العرب إلى الديمقراطية السياسية والاقتصادية العادلة التي طرحت حراكات الربيع العربي بعضاً من شعاراتها.

وينطبقُ الأمر على تساؤلات أخرى تطرح نفسها بقوة في الوقت العربي الحالي المتأزم وتحتاج إلى إجابات عملية تفصيلية. هناك سؤال عن كيفية الخروج من التشرذم النضالي السياسي الحالي في المجتمعات المدنية العربية، والانتقال إلى تكوين جبهات أو تحالفات أو تيارات قوية وفاعلة في الحياة السياسية على المستويين الوطني والقومي. إنها أسئلة عن مكوّنات تلك التحالفات وطرق بنائها وأساليب عملها. وفي قلب تلك التساؤلات موضوع التفاهم بين القوى القومية واليسارية والليبرالية العربية وبين قوى الإسلام السياسي الديمقراطي المعتدل، وبناء أسس لتجنب الصراعات العبثية الطفولية التي لا تخدم الانتقال إلى الديمقراطية وإنّما تصب في خدمة الثورات المضادة وقوى الاستبداد.

... إنَّ الحفر في الإشكاليات التي تطرحها تلك الأسئلة يجبُ أن يُوضع في قمة الأولويات؛ لأن عدم تقديم إجابات مقنعة وعملية منهجية سيُبقي المواطنين -محلياً وعربياً- في حيرة وبلبلة تؤدي إلى نكوصهم لحالة اللامبالاة والخوف التي هدفت حراكات الربيع العربي إلى خروج الأمة منها.

إن معرفة الأهداف الكبرى والإيمان بها من دون معرفة منهجية ومراحل التوجه إليها والوصول إلى تحقيقها هو وضع غير صحي ومدمِّر للسياسة. ومهمة مراكز الدراسات والمفكرين والمثقفين ألا يسمحوا بدوران أمة العرب في تلك الدائرة المفرغة.

تعليق عبر الفيس بوك