نقد الحال الراهن (3) الازدواجية

د. صالح الفهدي

قال لي: عُشتُ في ألمانيا أكثر سنين حياتي وهناكَ فهمتُ الإسلام..! هذا الكلامُ نسمعهُ كثيراً أنّ من يُدخلُ الإسلامَ من الأجانب يلتزمُ به أكثرَ من مسلمينَ ولدوا على الإسلام..!

قال لي آخر: إنّ عربياً يعيشُ في سويسرا هو أصدقُ لساناً، وأكثرُ ثقةً عندي من مواطنيه الذين يعيشون في موطنهِ الأصلي..! قال لي ثالث وهو صاحبُ محل: إن 90 بالمئة من المسلمين إن قالوا لي سنرجع لاحقاً لا يرجعون..! فلِمَ ذلك؟! لماذا هذه الازدواجية بين الانتماءِ للإسلامِ وبين تضييعِ أبسطِ مفاهيمه التي تكوّنُ النسقَ الإنساني الأخلاقي والنفسي وتبني العلاقات الإجتماعية المتزنة، وتنظّم شؤون الإنسانِ في الحياةِ وفق قيمٍ نفيسة؟!

وتأمّل إن قال لك إنسانٌ مسلم: سأفعل ذلك غداً فإنه في أغلبِ الحالاتِ لا يفعلها..! وإنه يضمرُ في نفسه وهو يقولُ: إن شاء الله عدمَ القيامَ بالفعل وليس التوفيق من الله في أكثره حتى أنّه أثّر بهذه الثقافة التسويفية التي تقومُ على العجزِ والتواكل على الآخرين الذي يعملون في موطنه..! كتب لي نائب رئيس إحدى الجامعات أن الأوروبيين الموجودين في الجامعة تأثروا بـ"ثقافةِ بُكرة" فأصبح شأنهم شأنَ الذين يسوّفون في العملِ ويؤخرونه بكلمةِ بكرة..!

إن جئنا لنسبرَ الأغوارَ، ونتقصّى الأسباب لوجدنا أن خللاً في التأسيس- تربيةً وتعليماً- هو السبب، فالابنُ ولدَ على الإسلامِ فانتمى له دون أن يُعضدَ بأساسٍ صلبٍ من المفاهيم الأساسيّة للدين الحنيف، فأصبحَ عرضةً للأهواءِ، وهدفاً للإغواءِ..! فالأساسُ لدينا كمسلمين هو كتاب الله مصدرُ التربية والتعليم، على سبيل المثال يقول صاحب كتاب"مجموع البيان"[1]:"من المعروف أن أول ما يبدأ به العمانيون تعليمهم يكون بدايةً بنظام الكتاتيب، حيث يتعلمون القراءة والكتابة ومبادئ الدين، ويقرؤون في هذه المرحلة القرآن ويحفظون منه وذلك على يد معلم القرآن"..

لقد انتشرت الازدواجية، والكيل بمكيالين فمن يصيحُ بفسادٍ قد تجدهُ يمارسه بطريقةٍ أُخرى، ومن يتذمر من معاملةٍ شخصٍ لا يعاملُ الناسَ باحترامٍ، ومن يدعو إلى فضيلة لا يكون قدوةً فيها.. يقول الشيخ حسن فرحان المالكي:" الازدواجية عامة في المسلمين؛ على جميع المستويات، الفكرية والسياسية؛ فمن ينكر منكراً هنا تجده يشرعنه هناك!"، سألتني موظفة بإحدى القطاعات بقولها: إن مديري يوصيني بعدم الصدق دائماً، بل بالكذب حيناً وبالصدقِ حيناً آخر، فهل يجوز ذلك؟ قلتُ لها: إن الصدقَ ليس سلعةً إنّما مبدأ وهذا يعتمدُ عليكَ إن كنت تؤمنين به كمبدأ أساس لشخصيتك فحينها لا يجوز تفعيله تارةً، وتعطيله تارةً أُخرى.

الازدواجية داءٌ ممقوت يقول فيه الحق سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3) )[2] وما أكثر من يتأرجحون بين كلامِ الليلِ وكلامِ النهار..! وليست الازدواجية ناجمةٌ عن خوفٍ دائمٍ أو تملّق واهمٍ إنّما هي عدمُ اتزانٍ نفسي، وعدم تقديرٍ ذاتي للنفس ووضعها موضعها الذي يليقُ بها، فلا بأسَ أن تتأرجحَ بين الصلاةِ وراءَ عليٍّ، والأكلِ في صحنِ معاوية..! ولا بأسَ أن يلقي القصائد في الطغاةِ والجبابرة ثم يقضي الليل في شتمهم ولعنهم، ولا بأس أن يتملّق لمسؤولٍ ويتزلّف ثم يسلخُ جلدهُ وشرفه وعرضه في زاويةٍ أُخرى، ولا بأس أن يصدحَ ببنود القانون، ومواد النظام ويخالفها من جوانبَ أُخرى، ولا بأس أن ينتقدَ وزيراً ثم يفعلُ ما هو أقبحَ حين يصبحُ في ذات المنصب..!

المشكلة الأساسية ألا مبادئ رصينة بُنيت عليها الشخصية المصابة بالازدواجية وهذا النموذج منتشرٌ بصورةٍ واسعة، ولهذا أُصيبت الأمّة بالأزمات والمحن لأنّ لغة الاجتماعات والقِمم والعرائض والبيانات شيء والأفعال فيما يلي شيءٌ آخر..! وحين سنتذكرُ القيم فإنني أستحضر كلاماً أعجبني للسيد محمد الحسيني وردَ في كتابه "فقه المستقبل" يقولُ فيه:"القيم هي التي تسمو بالإنسان فوق الواقع، وتجعله متطلعاً، واعياً، مدركاً لمهام مستقبله، فالقيم تخرج الإنسان من أفقه الشخصي المحدود، بل تخرجه من نصفية نظرته المحلية والموضعية وشبهها إلى إطلاقية نظرته الإنسانية، لتشمل العالم الذي يعيش فيه" ويضيف:"إن السياسة واقع، ولكنها عندما تمتزج بالأخلاق تصبح أفقاً واسعاً لا ينحصر في المصالح الضيقة، والأنانيات ولا بردود الأفعال الآنية، كما هي اليوم بعض السياسات الدولية التي تتعلق بالواقع فقط دون الأخذ بالقيم".

قس على هذا الكلام والمثل الذي ورد الكثير في المعاملات الاجتماعية والإدارية، والنواحي الفكرية والاقتصادية وغيرها لتصل إلى اكتشافِ أنه لا يمكنُ بناء شخصيّة إنسانية سويّة دون قيمٍ سامية مطلقة، لها غاياتها العليا ومراميها الفضلى، فكيف بك وأنت تبني شخصيةً مسلمةً أنزل الله لها منهجها القويم المنضودِ القِيم، المتكامل العناصر؟!

إن المتأمل لفترتي الدعوة المحمديّة الشريفة في مكّة والمدينة ليجدُ أنّهما تميّزتا بأمرين مهمّين: الفترةُ الأولى فترةُ عقيدة، والفترة الثانية فترة تشريعية، فإن أسقطنا ذلك على نظامِ حياتنا وجدنا وجوب تكريس العقيدة أولاً قبل تطبيق التشريع، فلا يمكنكَ إلزامُ أجنبية تود اعتناق الإسلامِ بارتداء الحجابِ قبل أن يسكن الإيمانَ قلبها. ولا يمكنكَ تطبيق القانون على مواطنين قبل أن تترسّخ فيهم قيم المواطنة بنيلِ حقوقهم الأساسية. ولا يمكنك إلزامُ فتى بالصلاةِ دون أن يعرفَ ماهية الصلاة..! ولا يمكنك أن تدعو إنساناً للدين دون أن يعرف من هو خالقُ الكونِ.

لا يمكنُ أن تُبنى شخصية المسلمِ على مجرّدَ معلوماتٍ سطحيّةٍ عن أُسس وقيم دينه، فالشخصيّة الإنسانيّة تحتاجُ إلى ترسيخٍ قيمي وفق برامجَ ممنهجةٍ لا يكون هدفها ممارسة الإخضاعِ والإذعان، وإنّما الإقناعِ والبرهان. الشخصيّة المسلمة تحتاجُ إلى تقويمٍ منذ الصغرِ على أدبياتٍ تقيم اعوجاج النفس والفكر بمكارم الخِلال، وهذه هي رسالة الإسلام التي جاءت على لسانِ نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام بقوله"إنّما بعثت لأتمم مكارمَ الأخلاق".



[1]الشيخ مبارك بن سعيد الشكيلي الغافري، وزارة التراث والثقافة، ط1، 2013م.

[2]سورة الصف.

تعليق عبر الفيس بوك