السقوط الأخلاقي للنظام السياسي العربي

علي بن مسعود المعشني

إن السياسة في صميمها هي علم وفن إدارة موارد المجتمعات، وبما يحقق لهذه المجتمعات صحتها ورفاهيتها داخل حدودها، ومصالحها وأمنها وراء هذه الحدود. ومن هذا المنطلق وهذه القاعدة، نُحاكم النظام السياسي العربي والذي تشكل في عهود "الاستقلال" وفي زمن الدولة القًطرية العربية الحديثة.

إنّ أولى المصالح للشعوب - ومنذ بدء الخليقة - تتمثل في الثوابت وصونها من العبث والمسخ أو الفناء، وتتشكل هذه الثوابت من مكوّنات الهوية الوطنية للفرد والمجتمع، من لغة ودين وتراث ومصير، والجغرافيا الحاضنة للفرد والمجتمع والكيان السياسي المُسمى بالدولة، وتحقيق سلامته ووحدته وتوسيع دائرة مصالحه وأصدقائه، وتضييق دائرة أعدائه وصراعاته.

حين نُسقط هذه البديهيات في السياسة وفنون الحكم وقواعده، على دولة الاستقلال العربي، نجدها معكوسة، وبُنيت على قواعد اشتباك ومصالح مغايرة تمامًا لكل أصول السياسة وقواعد الحكم الرشيد.

فالثوابت من لغة ودين وهويّة وموروث، تُركت بالجملة والتفصيل لصناديق الاقتراع والمزاد السياسي والفكري، والتنابز الحزبي والمجتمعي، وهذا الواقع "الشاذ" أوجد بالنتيجة الحتمية، تشققات وتصدعات بين أطياف المجتمع (نتيجة تخلي الدولة عن مسؤولياتها الأصيلة) ثم تطور ونما إلى تحزّبات واصطفافات فكرية وسياسية ومجتمعية، تمارس الحرب الباردة بينها، وسرعان ما تتحول تلك الحرب إلى ساخنة ودموية في لحظات ضعف الدولة أو غيابها بزعم الانتصار للوطن والثوابت وحمايتهما من الانتهاك والعبث الداخلي والخارجي. حيث تصبح تلك القناعات - في الغالب - بديلا عن الوطن في الولاء والمرجعية الفكريّة والسياسية

لاتصل المجتمعات والأفراد إلى هكذا نتيجة وواقع إلا بعد استنتاجها ويقينها بالسقوط الأخلاقي للدولة، والمتمثل في تغاضيها عن التجاسر على ثوابت المجتمعات، وعدم اكتراثها أو إيلائها تلك الثوابت ما يليق بها من حفظ وصون ودفاع، من الانتهاك والغزو والمتاجرة. لذا فإنّ تراخي الدولة وتقاعسها عن حماية الثوابت وصونها تعتبر اللبنة الأولى والأهم في سقوطها الأخلاقي، والبوار الأول والكبير في ممارسة "اللا" سياسة وتحقيق مصالح الفرد والمجتمع والكيان إذعانًا للتاريخ وقواعد السياسة .

العامل الثاني للسقوط الأخلاقي للدولة، يتمثل في السعي إلى تحقيق التنمية وفق رؤى ورغبات ومصالح فئوية ومراكز قوى بعينها، وإن كان الشعار المصلحة العامة والتنمية الشاملة، ولكنها في حقيقتها تنمية انتقائية لمشروعات بعينها، تحقق مصالح فئة بعينها وإن كان بريقها يخطف الأبصار والعقول ووسائل الإعلام. كون السياسة في صلبها، ترجمة رغبات ومصالح السواد الأعظم من الناس على أرض الواقع، وتلك الرغبات تعني بسط المنفعة المباشرة وغير المباشرة على الناس كافة والإذعان لرغباتهم واحترام تطلعاتهم وطموحهم في وطنهم ولوطنهم كذلك.

العامل الثالث للسقوط الأخلاقي للدولة، يتمثل في وجود تشريعات وقوانين لاتنبع من حاجات المجتمع، ولاتحترم ثوابته وموروثه الثقافي والفكري، وفي وجود إجراءات لا تحترم قيم المجتمع وما تعارف عليه الناس. فوجود هذه المظاهر وهذا المناخ كفيل بهدر طاقات الناس وجهودهم، ورفع درجة سخطهم على الوطن والسُلطة التنفيذية (الحكومة)، ونشوء ثقافات وقيم سلبية موازية للوصول إلى المصالح وحفظ المكتسبات للناس تصبح مع الزمن كدورة الحياة، وتحط بالمجتمع إلى الدرك الأسفل من القيم والأخلاق، كالرشوة والكذب والنفاق والنصب والإحتيال....إلخ .

العامل الرابع للسقوط الأخلاقي للدولة، يتمثل في ترفع الخطاب الإعلامي على الواقع، وتقمصه لشخصية الإعلام الحكومي لا إعلام الدولة، فهذه الحالة كفيلة بتنصيب طيف من مكونات الدولة على غيرها من المكونات وتهميشها. كما يؤسس هذا المناخ لجميع أعراض التورية والرمزية والإسقاط على الفكر الناشئ والثقافة وتشكيل عقول الأجيال المتعاقبة مصحوبة بمظاهر الكبت والقمع والإرهاب الفكري والمجاراة والإذعان والإغتراب، على حساب الوطن وثوابته الكبرى وهويته الجامعة.

أمّا على صعيد السياسة الخارجية للنظام السياسي العربي الرسمي، فالواقع بيننا اليوم ينطق بكل فصاحة وجلاء وبعشرات الأدلة والبراهين على عمق السقوط الأخلاقي لدولة الاستقلال العربي اليوم، والتي أصبحت تروج للسلام والتطبيع مع العدو، وفي المقابل تُمارس قضم أطرافها ومكوناتها لتقدمها قرابين للخصوم التاريخيين للأمة، مقابل المزيد من الوهن والشتات والفرقة والتناحر. حيث يروج النظام السياسي العربي اليوم، لثقافة الانتحار السياسي الجماعي للأمة، ويتفنن في تسويقه عبر حروب بالوكالة وخلق أعداء وهميين وحروب ورهانات خاسرة، هروبًا من الواقع والجبهات الحقيقية للمعركة والأعداء الحقيقيين للأمة.

جميع هذه المظاهر والظواهر اليوم، ماهي إلا أعراض متقدمة لتراكمات السنين العجاف في المشهد السياسي العربي المُثخن بالمؤامرات والنكبات والآلام، وكأنها قدر علينا وليست خيار منا؛ فلولا الحواضن السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أوجدتها دولة الاستقلال العربي، لما تسللت جميع هذه الأمراض والأعراض إلى جسد الأمة ووجدانها. ويبقى المهم في كل هذا القول بأن السقوط الأخلاقي للدولة هو مقدمة للسقوط المادي لها، وبحجم الاستحقاقات الأخلاقية على الدولة يكون حجم السقوط وآثاره وتداعياته.

فالواقع الذي لم يفهمه النظام السياسي العربي اليوم هو أن الجيش الذي لايُقهر أصبح يُقهر ويُدحر وفي كل حين، والتطبيع لم يعد خيارًا وإذعانًا، وأمريكا لم تعد قضاءً وقدرًا، والربيع أصبح خريفا شاحبا بائسا، والمقاومة لم تعد فصائل مشتتة هنا وهناك، بل أصبحت دولة ومؤسسات وإعلام مقاوم، عصية على كل المؤامرات والمؤتمرات، وأصبحت ثقافة عابرة للحدود والأجيال، وتتسع كلما أشهر النظام الرسمي إفلاسا جديدا، وترتقي كلما سقط النظام الرسمي في فخ أخلاقي جديد. وعقارب الزمن لاتعود للوراء.

قبل اللقاء: " متى يفهم العرب أنّ ضعفهم خيار وليس قدرًا !!؟ .

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك