نقد الحال الراهن (1)

د. صالح الفهدي

النظرة إلى الحال الراهن الذي نعيشه بكل تجلّياته ومشاهده تستوجب النقد من أجل التصحيح، وهي مهمّة تندرج في أولويات الكاتب، ولقد عنّ لي أن ألقي الضوء في سلسلة مقالات عن ظواهر متفشّية في المجتمعات الإسلاميّة، وهي ظواهر تتنامى نتيجة البعد عن اللبّ الأصيل للمنهج الإسلامي القويم.

هذا المنهج السماوي الجليل الذي يهدف في مقاصده إلى رفع قيمة الأخلاق، وعلّو شأنها فوق الماديات، لكن ما إن يجعل المسلم إيمانه بالله مجرّد شعائر مجرّدة من الشعور الروحاني بمعانيها وقيمتها فإنه ينفصل عن الغايات المثلى، ويصير الدّين مجرّد عادة لا عبادة عنده، ومع ذلك فهو يتباهى بكونه مسلما، لكنّه لا يلتزم بأبسط قواعده..!

إن المشكلة تقع في الأساس الذي إن لم يبن بالصورة الصحيحة فإنّ البناء لن يكون سليما، ومعلوم أنّ البناء السليم للمقدّمات، يأتي بمخرجات سليمة، والعكس صحيح. وما يحدث في المجتمعات الإسلامية اليوم من ارتباك وبلبلة وفوضى وعنف وتقاتل واختلاف محتدم وتبادل اتهامات وتشتّت بسبب عدم اليقين الإيماني الداخلي، وعدم اتزان النفس، وعدم الوضوح للرؤية والهدف، أو انسجام الأفكار. وهذه كلّها نتيجة عدم الاهتمام بصقل المولود الذي يولد على الفطرة تصويبا صحيحا نحو المبادئ القويمة التي جعلها الدّين أركانا للتنشئة، وهي أساس تكوّن الشخصية الإنسانية السليمة.

تأتي في مقدّمتها منظومة القيم الإنسانية الراقية التي تحتوي على أنفس القيم الأخلاقية المقوّمة لفكر الإنسان وسلوكه، وطرق تعاطيه مع الأفكار والناس، والأشياء في الحياة. فإن لحق هذه المنظومة أي اضطراب، واختلال فإن الشخصية الإنسانية والمجتمعات بكاملها لن يستقيم لها حال دون أن تمعن النظر في واقعها، وذلك بتشخيص الأمراض التي تخلخل بنيتها، وتسعى إلى تفكيك عوامل الوعي فيها.

إن الحال الذي غدت فيه الأمّة أشبه بالضبابية وعدم الوضوح في كثير من جوانبه، أكان ذلك على صعيد التنمية أو التربية أو التعليم أو التخطيط أو القضايا الاجتماعية أو السياسية؛ تسمع نقدا هنا، وتوصيات هناك، ولكنّك لا ترى منهجا عمليا، واضح الخطوات لمعالجة الخلل..! الأمّة قد تتقن الكلام، وتعلم ما هي الحلول، ولكنّها تفتقد إلى الإرادة الحقيقية للإقدام على وضع حلول جذرية. فقدان المبادرة في البلدان الإسلامية تسبب في كثير من التأخير، والتشويش، والإرباك في منظوماتها الاجتماعية والاقتصادية فهي تشهد التغيّرات المتسارعة ولكنها لا تفعل شيئا إزاءها، كما فعل العرب في الأندلس وهم يشهدون المدّ المسيحي الذي يبسط نفوذه بصورة متسارعة وهم مع ذلك مسكونون بالوهم في ثباتهم وعدم زحزحتهم وعدم تصورهم المآل الذي صاروا إليه..!!.

هذا ما يحدث الآن وتيار العولمة يواصل تأثيراته بالسينما والتلفزيون والإنترنت والماكدونالدز والأغاني الغربية وألعاب الكرتون والموضات وغيرها.. وفي المقابل تتفكك داخليا بنى المجتمعات الإسلاميّة التي أفقدت نفسها القواعد التي يجب أن تقوم عليها نهضتها الحقيقية وأول ذلك كتاب الله سبحانه وتعالى المرافق بفهم صحيح لمقاصد الشريع، وحكمة العقيدة.

الإشكالية الكبرى أنّ طرق التأسيس في المجتمعات الإسلامية هشّة، قائمة على القول أكثر من الفعل، وأن الأفق المستقبلي، والتوافق مع روح الحداثة والعصر لا يكاد يبين. هذا إلى جانب تغييب القيادات المستنيرة في مجالات أساسية قادرة على إحداث التغيير الإيجابي في الأمّة. وإذا كنا نسأل عن أسباب تفشي الظواهر الفكرية والسلوكية السلبية في مجتمعاتنا فإنّ الإجابة عن هذا تحيلنا إلى الطرق المبدئية في منهجية التربية والتعليم.

أثناء كتابتي لهذه المقدّمة وردني اتصال من شخص يخبرني فيه عن ابن عاق لوالديه، متمرّد عليهما، مصاحب لقرناء السوء، ويسألني كيف يمكن العمل لإعادته إلى جادة الصواب؟ قلت له: يجب التوجّه إلى والديه قبل التوجّه إليه أولا، وأردفت قائلا: المشكلة عندنا هي التوجّه للفروع وليس للجذور، فالمشكلة الأكبر أن الوالدين - في الأغلب- هما سبب انحراف الأبناء أكان ذلك في بعدهما عن الأبناء عاطفيا ونفسيا وفكريا وغيرها، أو جهلهما لأسس التربية الصحيحة واعتمادهما أسلوب الإخضاع والإذعان للأبناء كيفما كانت نتائجه. هذا يذكرنا بقصة الأب الذي اشتكى عقوق ولده لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين أشكو إليك عقوق ولدي، فقال: ائتنى به، فجاء الولد إلى عمر، فقال عمر: لم تعق أباك؟ فقال الولد: يا أمير المؤمنين ما هو حقي على والدي؟ فقال عمر: حقك عليه أن يحسن اختيار أمك، وأن يحسن اختيار اسمك وأن يعلمك القرآن. فقال الولد: والله ما فعل أبي شيء من ذلك، لقد عقّني قبل أن أعقّه، لم يسمني اسما جميلا، بل سماني جعلا (خنفساء)، ولم يختر لي أما تحسن تربيتي، ولم يعلمني ولم ينهني عن جلساء السوء, فسأل عمر الوالد فاعترف فقال له: انطلق لقد عققت ولدك قبل أن يعقك..! فانظر إلى الحكمة السديدة التي اهتدى إليها أمير المؤمنين رضي الله عنه في السؤال عن الأسس قبل أن يتحدث في المشكلة وكيفية معالجتها، وإكراه الإبن على طاعة والديه.

الشاهد أننا إذا كنّا نطمح إلى تغيير إيجابي في الواقع فإنّ علينا أن نشخّص المشكلات ثم نردّها إلى الأسس القيمية كي نصلح هذه الأسس إصلاحا قويما لا بالقول والخطب والمحاضرات والندوات وغيرها بل بالبرامج العملية، والمؤسسات الاجتماعية المسخرة لإحداث التغيير الثقافي في المجتمع، وتصويبه إلى الجادة المستقيمة، وما الظواهر التي سترد في المقالات اللاحقة إلاّ تشخيص للواقع وهي مهمة المثقف الذي عليه كشف الواقع واقتراح الحلول الناجعة لإصلاحه. مع التنويه بأن الظواهر لا يقصد منها التعميم لكنها حالات عامّة تتنامى في مجتمعاتنا الإسلامية ولهذا يتوجب التوقف عندها وكشف النقاب عنها.

تعليق عبر الفيس بوك