كلوا فراولة إن نفد القمح!

رحاب أبو هوشر

بَيْن دول العالم المنتجة للقمح وتلك المصدِّرة له، لن نجد اسما لدولة عربية واحدة، وسنجد في تقارير منظمة "الفاو" الزراعية، اسم مصر كأكبر مستورد له في العالم. الدول العربية التي تنتجه، لم تحقق الاكتفاء الذاتي من القمح -سوريا كانت الأكثر اكتفاء- بل إن إنتاجها غير الكافي في تناقص، وتستمر باستيراد احتياجاتها المتزايدة من سلعة عالمية إستراتيجية، شكلت -وما زالت- قوام حياة الشعوب كافة؛ لتواجه اليوم مخاطر كثيرة، كالمجاعات وثورات الجياع، وأهم الأخطار استمرار التبعية والارتهان.

ذلك في الوقت الذي يكتسبُ فيه القمح -وعلى نحو استثنائي- أهمية بالغة لدى الشعوب العربية التي يشكل طحين القمح ومادته الأساسية "الخبز"، إضافة لمشتقاته الأخرى، في نظامها الغذائي اليومي، ناهيك عن وجدانها، ثقافة مستمرة تمتد في عمق تاريخ المنطقة العربية، وموروثها الحضاري والشعبي والاقتصادي أيضا، للخبز والقمح فيها مرتبة المقدس بين المزروعات والأغذية كافة.

وفي هذه المنطقة التي كانت مَوْطن غلال العالم ذات يوم، وفيها نشأت أول الحضارات البشرية حول الماء، وابتكرت الآلهة؛ فكانت آلهة الخصب عشتار-عشتروت وأوزيريس، واقترن الخصب بالقمح، أول ما زرعه الإنسان فيها لما اكتشف الزراعة، وخزنه مؤونة لحمايته من جوع سنين الجدب وفيضانات الأنهار، وصنع منه أغذيته الأساسية، في منطقة ظلت تتناوب عليها كوارث الغزو والحروب والمجاعات والفقر، ليظل القمح عبر التاريخ وحتى يومنا، رمزا للنعمة الإلهية على البشر، وتقديسه عنوان لشكرها. إن وجدت خبزا ملقى على الأرض، قبله وارفعه عنها، ولا تلق بفضلات الخبز في القمامة، ضعها جانبا. هذه وصايا جدات وأمهات، ما زالت فاعلة ومؤثرة حتى اليوم.

وفي الفلكلور الشعبي، يحتل القمح مساحة بحجم استقراره كقيمة ثقافية وروحية واجتماعية، ويمكن العثور على عشرات الأغنيات الخاصة بمواسم حصاده، والأمثلة الشعبية المبجلة له، وأما في المناسبات، فما زالت هناك، على الأقل في الأرياف، عجينة تلصق على الباب قبل دخول العروس، استبشارا بخصبها القادم، و"تسنينة" قمح مسلوق محلاة، توزع على الجيران، فرحا بظهور أول سن للرضيع.

... لن تطرح شعوب -القمح بالنسبة لها معادل الحياة، حتى إنَّ منها من يُسمُّون خبزه "عيش"، وتعده ركيزة نظامها الغذائي- تساؤلات عن احتمالية نفاده من الاسواق، وهي واردة على ضوء حروب الأسعار وحصص الإنتاج والتوريد التي تخوضها الدول المصدرة، إضافة إلى التجاذبات والضغوط السياسية على البلد المستورد. مصر تشتري سنويا حوالي 10 ملايين طن من الأسواق الدولية، ومنذ العام 2011 تقريبا، تعيش أزمة قمح مع الموردين تثير هلع الناس والحكومة، وهو مؤشر على ما يمكن أن يهددها وسواها من البلدان العربية؛ في ظلِّ توقعات ارتفاع أسعار القمح في بورصة الحبوب العالمية التي يسيطر عليها كبار المنتجين والمصدرين: كندا، فرنسا، روسيا، الصين، أمريكا وهي المنتج الأكبر بمعدل 32% من التجارة العالمية.

... الشعوب التي يجتاحها الفقر والغلاء والبطالة، لا تحتمل أيضا أيَّ زيادات جديدة على أسعاره، والمأزق الكبير قيام الحكومات بتحرير أسعاره، أي رفع دعمها المالي عنه، شرط صندق النقد الدولي المؤجل حتى اليوم، مقابل المساعدات المالية. وفي سنوات سابقة، حدثت ثورات خبز عديدة جراء رفع أسعاره، في المغرب ومصر في فترة السادات، وفي اليمن والأردن. أما المأزق الحقيقي فهو نتاج عقود من غياب التخطيط الإستراتيجي، وإهمال الزراعة والمزارعين في خطط التنمية، واستمرار تخلف أساليب الزراعة، وتجاهل الحكومات لخطورة القمح كمادة إستراتيجية، تسعى كل الدول لتحقيق اكتفاء ذاتي بها ما أمكنها، حتى تحافظ على الأمن الغذائي، بما يعنيه من أمن اجتماعي وسياسي أيضا، وما يعنيه أيضا من سيادة وإرادة وطنية.

بلدان كمصر والأردن والمغرب والعراق، كانت مُنتجة للقمح ومصدرة له حتى الستينيات، الآن تستورده. وإيران وتركيا بعد أن كانتا دولا مستوردة للقمح، أصبحتا دولا منتجة له، في طور الاكتفاء الذاتي، رغم الأزمات الاقتصادية وأزمة المياه العالمية وغيرها من أزمات تساق في تبرير التخلي عن زراعة القمح عربيا.

صندوق النقد الدولي الممثل للرأسمالية العالمية والقوى الغربية، وذراعها الضارب في البلدان النامية، يتابع مهمة بريطانيا في الأربعينات، في تحويل مساحات واسعة من زراعة القمح في مصر إلى زراعة القطن لخدمة الاقتصاد البريطاني، ومهمة فرنسا في الجزائر باستبدال القمح بزراعة العنب إبان الاستعمار، مع قيام الحكومات بالقضاء التدريجي على الأراضي الزراعية بمشاريع الأسمنت، والقضاء على الزراعة الوطنية الإنتاجية، بمزارع رجال الأعمال الاستثمارية والمشاريع الصغيرة الممولة. لا يقدم الصندوق مساعداته إلا بشروط، يسميها إصلاحات اقتصادية، ووفقها كان يجب تقليص مساحات زراعة القمح؛ باعتبارها مُكلفة وغير مُجدية اقتصاديا، واستبدالها بزراعات سريعة المردود، كالخضروات والفراولة والمانجا مثلا، يمكن بيعها في السوق المحلي أو تصديرها، يقول لهم: أما القمح فاتركوا زراعته لنا، سنبيعكم إياه وفق شروطنا وبأسعارنا.

تعليق عبر الفيس بوك