"عاصفة الحزم" تفقأ دمامل التخلف العربي

عبيدلي العبيدلي

إن كان قد سجل للحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في العام 1975، أنها فقأت دمل زيف المجتمع اللبناني، لتكشف عن القيح الذي كانت تخفيه قشرة رقيقة من التمدن الكاذب، فيمكن أن تعلق حرب "عاصفة الحزم" على صدرها نياشين إفراغها خراج الأوساخ العربية من تحت جلود سميكة لا يمكن أن تخترقها إلا حرب من هذا المستوى، تجيش لها دول، وتستخدم فيها أسلحة متطورة. لقد عرت الحرب الأهلية اللبنانية تلك، أوهام العرب بشأن مستوى التطور الذي توهموا أن لبنان قد وصل إليه، لدرجة أنهم أطلقوا عليه "سويسرا الشرق". تتكرر المأساة اليوم حيث نزعت "عاصفة الحزم"، ورقة التوت التي كان يتستر بها العرب، واهمين بقدرتهم على إخفاء تضاريس التخلف التي رسمتها على أذهانهم، قبل أجسادهم جغرافيا واقع الجهل الذي يرزحون تحت قوانينه.

سبقت أقلام الحملات الإعلامية جنود القوات العسكرية إلى المعركة، فغصت قنوات وسائل التواصل الاجتماعية بمواد تراوحت بين الغمزات اللاذعة، والتهكمات الساخرة، وصولا إلى "الاستفراغات" الحاقدة، التي تقف إلى هذا المعسكر، أو تنضوي تحت ألوية خصمه. قليلة تلك المعالجات، وربما نادرة، التي رفضت السباحة في تلك التيارات، ونأت بنفسها عنها، فحاولت أن تلج الموضوع من زوايا مختلفة عن الزاوية الوحيدة التي سيطرت على الإعلام العربي وهي الزاوية الطائفية. بعيدا عن النوايا، ودون الحاجة للدخول في المسببات، فشل العرب في صيانة حياض تلك الحرب، بعيدا عن محاولة شجبها او الدفاع عنها، عن قوانين الطائفية، ومن ثم شروطها.

أجل فقأت "عاصفة الحزم"، دمامل التخلف العربي في أسوأ صوره، وأرغمت الجميع على إزالة مساحيقهم التي طالما أخفت صورهم القبيحة، ووضعنهم عراة تحت مجهر تلك الحرب، وأجبرتهم على الإفصاح عما حاولوا ستر عورته.

قرأنا كتابات من ادعوا الانتماء إلى الفكر الأممي بمختلف مدارسه وتلاوينه التقليدية المحافظة منها، وتلك المتمردة على تلك المدارس، ولا أتهم الأمميين الحقيقيين، كي لا أظلمهم، فوجدناهم ينظمون بمحض إرادتهم، ودون أية ضغوط من أطراف سوى طقوس طائفيتهم المتجذرة في أعماق تفكيرهم، إلى هذا المعسكر أو ذاك، انطلاقا من قناعة راسخة بذلك الانتماء الطائفي. ربما نجحوا في إقناع الذات بصحة ما ذهبوا إليه من تحليلات لتلك الحرب، لكنها لم تتعدى محيطهم الضيق الذي كان الحاضنة الأفضل التي أفرغوا فيها صديد ذلك الانتماء. رفض أولئك الأمميون العرب الذين نتحدث عن كتاباتهم فضاءهم الكوني الواسع إكراما لنعراتهم الطائفية الضيقة. انضم إلى قافلة المتوسدين مخدة الطائفية المطرزة بدمامل التخلف الطائفي، المنتمين إلى التيارات الإسلامية بأطياف الإسلام السياسي المتعددة. اختار كل واحد منها خندقه الطائفي الذي يلائم لونه، ويناسب توجهاته، وراح يقذف بنبال الطائفية المتعفنة خنادق المسلمين الأخرى، الذين هم أيضا أقاموا حصونهم على أسس طائفية. وتعانقت في سماء اليمن تلك الرماح التي فاحت روائحها العفنة، فسممت أجواء اليمن. تراجع الانتماء الديني الرحب المتسامح لصالح التقوقع الطائف الضيق.

مرة أخرى، وتماما ما ينطبق على الفريق الأممي ينطبق على المعسكر الإسلامي، فالحديث يستثني من كليهما من رفض السباحة في مستنقع الطائفية، لكن تلك حالت استثنائية نادرة، لا تنفي ما قامت به الغالبية العظمى من الطرفين.

حتى الوطنية، أو المواطنة بمعناها السياسي الحديث، هي الأخرى فشلت في أن تجد لنفسها مكانا فوق ملعب الطائفية الذي نتحدث عنه، فوجدناها تضعف أمام الطوفان الطائفي، وتخضع نفسها لقوانين الطائفية المنفلتة من عقالها، والتي ترفض الخضوع لأي منطق سوى منطقها الممعن في تخلفه، وتأبى التعايش السلمي مع أي فكر يحاول أن يتلمس لنفسه مسارا بعيدا عن أزقتها الملوثة.

خطورة الفكر الطائفي الذي نحذر منه، أنه لا يتوقف بعد أن تضع الحروب أوزارها، بل على العكس من ذلك سوف نجده ينتعش ويزدهر بعد أن تسكت أصوات المدافع، وتعود القوات إلى ثكناتها. والحرب الأهلية اللبنانية، بما حملته من أجنة طائفية خلال الاشتباكات، خير دليل صادق على ما نقوله.

فما أن أعلنت الهدنة، بشكل رسمي، أو كتحصيل حاصل، حتى خرجت ثعابين الطائفية اللبنانية من جحورها، وراحت تبث السم في أجواء لبنان، وتنشرها، ولم ترجع إلى تلك الجحور إلا بعد أن ضمنت انتشار تلك السموم إلى الأجواء المجاورة، فعمت سماوات سوريا والعراق، وحتى مصر بعد السودان.

وإن كانت مخلفات الحروب جرحى وقتلى ومشردين ولاجئين، فإن نتائج سموم الطائفية أسوأ من هذه جميعا، وأوضاع ضحاياها أشد رداءة. فإن كانت الحروب تمس الأجساد والأملاك، فإن الطائفية تسيطر على العقول، وتسير الأذهان، ومن ثم فدرجة انتشارها أكثر اتساعا، فهي لا تخضع لقوانين الحدود السياسية، ولا تعترف بما تقوله أنظمتها، وزمن تداعياتها أكثر طولا لكونها أكثر قدرة على الصمود في وجه التحولات التي تفرضها أحكام الزمن. وفوق هذا وذاك هي أكثر قدرة من سواها من السلوكيات الإنسانية على التخفي وراء مساحيق تختارها لنفسها كي تؤمن لها كل مقومات التمويه والكمون والانقضاض على ضحاياها حين تحين الساعة التي تراها هي مناسبة لبث سمومها في جسد ضحيتها.

لقد فقأت معارك "عاصفة الحزم" دمامل التخلف العربي، وهي كثيرة، وليست الطائفية سوى واحد من أخرى غيرها. وربما تصعب المعالجة في أوقات الحروب وأثناء المعارك، لكن ذلك لا يعني التنويه والتحذير، وهذا أضعف الإيمان.

وعلى العرب أن يستعدوا لمعارك قادمة سيفرضها قيح الطائفية الذي أسالته طلقات "عاصفة الحزم"

تعليق عبر الفيس بوك