الحداثة العقليَّة شرط كل الحداثات

علي فخرو

لقد كتب الكثيرُ عن ضرورة عَدَم ضياع الفرصة التاريخية التي تعيشها الآن مُجتمعات الخليج العربية، فُرصة وجود ثروة بترولية وغازية هائلة تسمح -فيما لو عُرفت وتمَّت الاستفادة من هذه الفرصة- بقلب تلك الثروة من ثروة مالية تصرف وتبعثر إلى ثروة تنموية شاملة مستدامة، مادية ومعنوية، تمتد إلى آفاق المستقبل البعيد.

لكنَّ القسم الأعظم من تلك الكتابات ركّزت على الجانب الاقتصادي من تلك التنمية؛ وذلك من أجل انتقال تلك المجتمعات من اقتصاد ريعي استهلاكي إلى اقتصاد إنتاجي ومعرفي. وبالطبع فإنَّ ذلك التحول الاقتصادي مُهم وضروري؛ لأنّه يقرّب تلك المجتمعات من الحداثة الاقتصادية القائمة على تطوير وسائل الإنتاج من خلال الاكتشافات العلمية والتكنولوجية، وعلى استقلالية المؤسسات الاقتصادية وإدارتها بكفاءة وفاعلية من خلال قوانين تضبط حركة السوق، ومن خلال تقسيم العمل وتنظيم وتدريب القوى العاملة.

غَيْر أنَّ الحداثة الاقتصادية تلك ستتعثر، بل وستفشل، إنْ لم يصاحبها وُلوج الحداثة الاجتماعية والثقافية، والحداثة السياسية.. فأنواع ومستويات الحداثة مترابطة ومكملة لبعضها البعض ولا تسمح بالانتقالية التلفيقية التي تجعلها متعارضةً مع بعضها البعض.

فمن أجل أن تتوافر في الإصلاح الاقتصادي الشروط المطلوبة لتحديثه لابد من ولوج الحداثة السياسية أيضاً، والتي تتمثل في بناء الدولة الديمقراطية. فوجود المؤسسات القانونية التي تفرض احترام القانون والالتزام به، وفصل واستقلالية سلطات الحكم الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، ومراقبتها لبعضها البعض، ووجود الإعلام الحر المراقب، وترسيخ مبادئ المواطنة المتساوية، ستكون ضمانات ضد الفساد والمحسوبية والاستغلال في الحياة الاقتصادية، وضمانات لوجود الشفافية والمحاسبة وعدالة التوزيع من جهة، والنقابات العمالية المستقلة النشطة من جهة أخرى.

والحداثتان: الاقتصادية والسياسية، تحتاجان بدَوْرهما إلى حداثة اجتماعية تغيّر أسس العلاقات في المجتمع؛ فالمجتمعات تحتاج أن تنتقل من البدائية التقليدية؛ حيث تهيمن العلاقات القبلية والعشائرية والأصول العائلية أو المذهبية أو العرقية، إلى المجتمعات التي تكون فيها المعايير الحاكمة معايير الجهد والإنتاجية والكفاءة والإبداع والخدمة العامة والتميّز في القيام بواجبات ومسئوليات المواطنة.

... إنَّه مجتمعٌ يوازن بين الفرد والمجتمع؛ بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، وهو منفتحٌ على التغيير والتجديد بعقلانية وبلا عقد ماضوية.

هُنا؛ نصلُ إلى النقطة الأساسية وهي أنَّ تلك الحداثات الثلاث: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لا يمكن أن تشترى بالمال، ولا يمكن أن تحدثها طموحات هذا القائد أو ذاك. إنَّ الطريق إليها هو السير في دروب الحداثة الثقافية والفكرية التي تؤدي إلى تهيئة الإنسان والمؤسسات وكل قوى المجتمع المدني؛ للانخراط في تلك الحداثات الثلاث بسلاسة، وبدون هزاتٍ كبيرةٍ تشوّهها أو ترجعها إلى المربع الأول.

... إنَّ الحداثة الثقافية والفكرية تهدف إلى تغيير الإنسان؛ من خلال إقناعه وتعليمه، ليصبح قادراً على ممارسة ثوابت ثقافية وفكرية جديدة في حياته. وفي قمة هذه الثوابت، استعمال العقل والمناهج العقلانية والأساليب العلمية عند تعامله مع التراث والتاريخ، وما يقرأ أو يسمع أو يشاهد أو يمارس في حياته اليومية؛ وبالتالي لا يسقط تحت سحر الخرافات والدعايات والآمال الكاذبة. إنها عقلانيةٌ قادرةٌ على تحليل الأمور بإبداع، ونقدها وتجاوزها إن لزم الأمر.

وفي قلب هذه الثوابت احترام الإنسان لاستقلالية ذاته من خلال تكوين قناعاته بحرية ومسئولية؛ وبالتالي عدم خضوعه أو ذوبانه في الذات الجمعية لهذه الجماعة أو تلك. لكنها في الوقت نفسه ذاتيةٌ غير أنانية، ومتناغمة ومتكاملة مع الذات الجمعية من خلال الالتزام الأخلاقي والنضالي بقضايا الأمة والوطن والإنسان.

هُناك ثوابت كثيرة لا يسمح المجال للدخول في تفاصيلها، لكنها جميعها يجب ألا تكون تقليداً لأية حداثة أخرى؛ إذ إننا نتحدَّث عن ولوج حداثة عربية تنبثق من حاجات المجتمعات العربية، وتحاول حل إشكاليات عربية في هذا الزمان العربي، وفي هذا المكان العربي.

ولأنَّ تغيير الأفكار والعادات والسلوكيات الخاطئة والقناعات المعيقة للتقدم عمليةٌ كبيرةٌ ومعقّدةٌ، فإنَّ المسؤولية لا تقع على كاهل المفكرين والمثقفين فقط. إنَّها تحتاج لانخراط مؤسسات مفصلية في عملية التجديد والتحديث؛ وعلى رأسها: المدرسة والجامعة ومراكز البحوث ومختلف وسائل الإعلام، والكثير الكثير من مؤسسات الثقافة بما فيها المسرح والسينما والغناء والرسم. ولا تستطيع تلك المؤسسات القيام بمهمة الحداثة الفكرية والثقافية دون أن تكون قد استوفت متطلبات الحداثة في ذاتها، أهدافاً وتنظيماً ووسائل.

هناك الكثير من مظاهر الحداثة المادية المبهرة في مجتمعات مجلس التعاون الخليجي، لكن هناك أيضاً الكثير من مظاهر الغياب شبه الكامل للحداثة العقلية التي بدونها ستتعثر كل الحداثات. ولوج تلك الحداثة ينتظر توفر الإرادة السياسية الرسمية والمجتمعية التي آن لها أن توجد قبل فوات فرصة زمن الثروة البترولية والغازية الهائلة.

تعليق عبر الفيس بوك