شعوب سعيدة دون أن تدري!

رحاب أبو هوشر

نقرأ تقارير راجتْ في السنوات الأخيرة، عن استطلاعات رأي "غامضة" المعايير، تزعم قياس منسوب السعادة لدى الشعوب العربية! دون أن تفصح جهة الاستطلاع عن أدواتها المعتمدة في القياس، أو كيفية وأسس اختيارها للعينات الاجتماعية. ونتائجها عادة ما تفاجئ الشعب "السعيد" كالمصري أو الأردني، حين يحتلان ترتيبا مُتقدما في السعادة وفق الاستطلاع، لا وفق الأحوال! الناس يتبادلون مثل تلك التقارير ونتائجها باستهجان وغيظ مكتوم، للتندر على واقعهم كشعوب وأفراد معا.

ما الذي يعنونه بالسعادة؟ هذا المفهوم الفلسفي المعقَّد، الذي لاحقه البشر دائما دون جدوى، ثم طرحوا عليه مساومات تسوية، جعلت من بلوغ هدف الرضا في مواجهة تحديات الحياة المتعددة والمتزايدة، حلا توفيقيا للحد من لهاث عبثي وراء سعادة مطلقة، لا تتحقق في واقع محكوم بنسبية الشروط، ونتحدَّث هنا عن البشر، شعوبا وأفرادا في كل مكان. أما طموحنا نحن العرب، شعوبا وأفرادا، فأقل من السعادة حتما، ألا نفقد قدرتنا على مُقاومة معارك لا تنتهي، ولا يزج بنا منذ ولادتنا في قالب الإرضاء. أما الرضا، فإنه انتصارٌ عزيز لقلة طموحة، وكثيرون يمضي بهم العمر دون أن يحققوه.

سنستبدل استطلاع "السعادة" باستطلاع يقيس الرضا في مجتمعاتنا العربية. تُرى ماذا ستكون النتيجة؟ كم ستبلغ نسبة الراضين؟ وكم سيكون عدد الساخطين على أوضاعهم؟ نعتقد أن النتيجة ستكون مروعة، سينتصر السخط والألم، وسينزوي الرضا بنسبته الضئيلة التي سيحصل عليها.

ما مدى الرضا الذي يُحققه الفرد في مجتمع لا يزال مُتشبثا بثقافة أبوية سلطوية، لا تقيم وزنا لرغبات وإمكانيات الفرد الذاتية، ولا تعترف بحاجة الفرد للإحساس بالرضا عن ذاته أولا، ومن ثمَّ عن سائر شؤون حياته. كم شخص منا كان حرًّا تماما في اختيار دراسته، أو يمارس العمل الذي يحبه حقا، ويمكن له الإبداع والتحقق من خلاله؟ ألا نرضخ في اختيارات العمل -بعيدا عن إشكاليات صعوبة الظروف الاقتصادية والحاجة الماسة للعمل لضرورات العيش- لاعتبارات تمليها علينا ثقافة اجتماعية، ترفع من شأن أعمال ومهن، وتقلل من شأن أخرى، بل وربما ترفع في وجوهنا إشارات المنع والاحتجاج، إن أخذتنا الجرأة وفكرنا بالعمل في مهن طارئة نسبيا على ثقافة المجتمع كالفن مثلا.

ألسنا أسرى قسوة سلطة مجتمع لا يرحم، ويصنف البشر وفق نوع ومستوى أعمالهم ومهنهم، في تراتبية تخلق الشروخ الاجتماعية، وتهيِّئ أرضية الصراعات النزيهة منها وغير النزيهة؟! الكل يُريد موطئ قدم على سلم المجتمع، كي يحظى بالاعتراف وينال "الاحترام" الاجتماعي، الذي بدونه سيتضاءل إحساس الفرد بذاته، ويشعر بالنقمة تجاهها وتجاه مجتمعه، ويظل يحارب في معركة، قد تحقق له تقدما مهنيا واجتماعيا، ولكنها لن تخفف من وطأة إحساسه بالاغتراب وعدم الرضا.

سيقول البعض إنَّ هذا هو الطموح، الذي يحقق ديمومة الحياة، ويبرر استمرار الإنسان بالوجود، وهذا صحيح لو كان طموحا حقيقيا يمتلكه الفرد، وينبع من تكوين شخصيته، ويعبر عن مواهبه وقدراته، وفي حياتنا أمثلة عديدة لأناس قتلت أو هم قتلوا مواهبهم وأحلامهم، لانسداد الآفاق أمامهم في امتهان ما يُحبون؛ سواء كان ذلك رهبة من رفض المجتمع، أو رغبة بالعيش الكريم، الذي لا تتيحه ثقافة تفرض على أفرادها رؤيتها للحياة.

والأمر لا يقتصرُ على العمل بالتأكيد، وهناك العديد من الأمثلة على عدم تحقيقنا للرضا، هدفا وشعورا. أما القهر الأكبر، فإنه كالعادة من نصيب المرأة، التي لا يوجه لها السؤال عن مدى رضاها عن حياتها، وإذا سُئلت وأجابت بصدق عمَّا يجول في داخلها، لن تجد إلا الهجوم والاتهامات التي تستنكر معاناتها، وهي التي تعيش نعيم الوصايات اللامتناهية الأطراف! فالمرأة العربية لا تزال حتى اليوم، وإن بشكل نسبي، تعيش خلف أسوار من المحظورات، تجعل الرضا بالنسبة لها أملا تطارده كل يوم، فمن العمل المشروط والمحدد بمهن معينة، إلى الزواج وفق تراث القبيلة، وحتى الوصاية على تفاصيل حياتها الشخصية واليومية. كيف يمكن للمرأة التي لا تفعل إلا ما قرره لها الآخرون، ولا تملك شيئا من قرارات حياتها، أن تشعر بالرضا؟

وفي نهاية المطاف، فإنَّنا جميعا -رجالا ونساء، وفي مختلف تفاصيل حياتنا- راضخون لمتطلبات سلطة ثقافية واجتماعية، حتى وإنْ تنافرت مع متطلباتنا الذاتية الحقيقية، ولهذا تكثر في حياتنا الأقنعة، تنشطر الشخصية، فثمة شخصية نرتديها، فور خروجنا من بيوتنا، كي نواجه الآخرين، ثم نخلعها في وسط العائلة؛ لنرتدي أخرى أكثر انفتاحا مع الأصدقاء المقربين. أما جلدنا الحقيقي الذي نسقط عنه آخر قناع، فلا يكون إلا في العتمة؛ حيث نمسك أطياف الرضا، ونتذكر وهما إنسانيا يدعى السعادة.

تعليق عبر الفيس بوك