"1919" لأحمد مراد

عبيدلي العبيدلي

يلخص أحمد مراد ما أراد أن يقوله في روايته "1919" -الصادرة عن "دار الشروق للنشر" الأردنية- "هذه الرواية عمل أدبي، وجميع الشخصيات والأحداث الواردة فيها تم استخدامها في إطار خيالي، مما يدل على أن استخدام الشخصيات السياسية مثل سعد زغلول، ومصطفى النحاس، وعبد الرحمن فهمي، والملك فؤاد...إلخ، كشخصيات روائية، إنما هو عنصر لخدمة القصة الأساسية، وخلفية وجو عام لأحداث خيالية".

لكن ما هو أهم من ذلك أن المؤلف يجسد في تلك الرواية هروبه الكامل من أحداث "السنوات الثلاثة المريرة التي عايشناها مؤخرا (أحداث مصر الأخيرة، فيقرر) أن يعود لثورة منسية، لم يعد لها مكان سوى في كتب المدارس". لذلك تنقلك الرواية في رشاقة متناهية، وبسرعة تكاد تقترب من سرعة الضوء، من الواقع المعاصر، كي يحط بك في العقد الثاني من القرن الماضي. يفعل ذلك دون أن يشعر القارئ بحاجة إلى معرفة حقيقية بوقائع تفصيلية لتلك الحقبة الغنية من تاريخ مصر الحديث.

الأهم من ذلك -ومن الناحية الفنية- أن يجد القارئ نفسه وهو يلهث وراء أحداث الرواية المتتابعة، فيما يشبه الحيرة لا يستطيع أن يميز فيها بين كونه ينتقل بين سطور صفحات الرواية أو أنه يتابع شريط فيلم سينمائي. هنا تكتشف أن مراد نجح في المزاوجة ببراعة فنية متقنة بين زوايا مثلث، يقبع في أولها اطلاع ثري بوقائع تلك الثورة وخلفياتها التاريخية، بل وحتى سلوك أفرادها، يتكامل ذلك مع الزاوية الثانية وهي براعة أدبية تخوله من وصف التفاصيل دون إسهاب ممل، قبل أن يأسر القارئ بمهاراته السينمائية التي راكمها من كونه خريج قسم التصوير السينمائي بالمعهد العالي للسينما بمصر. في "1919"، يغرف القارئ من معين كنز أدبي تتوالد فيه عبارات مراد التي تتناغم مع صوره السينمائية، في حبكة أدبية-فنية متقنة.

تتجوَّل شخوص الرواية بقارئها من العمل السري النضالي الذي ينطلق، كما في الرواية من "مقهى "متانيا" إلى بيت سعد زغلول حيث تبدأ قصة حب بطل الرواية أحمد كيرة بـ"نازلي"، التي ترغم على الزواج من الملك فؤاد تاركة لأحمد قلبا نازفا لا يتوقف إلا عندما يلفظ أنفاسه على يد طلقات الأهوائي، أحد المشاركين في النضال ضد الإنجليز، لكنه يندفع تحت ضغوط إحباط من النهايات التي آلت لها الثورة، كي ينتقل من صفوف الثوار إلى دهاليز المخابرات البريطانية.

لذلك؛ عندما تتركز العدسة السينمائية (zooming) على صفحات الكتاب، نبدأ في قراءة سير تلك الشخوص التي تتصدرها شخصية بطل الرواية أحمد عبد الحي كيرة، الذي ورث روحه النضالية من أبيه ممن شاركوا في ثورة عرابي. ومن هنا، لم يُفاجأ القارئ عندما مزج أحمد بمهنية ثورية عالية بين "صداقة ظاهرية للإنجليز"، وفي الوقت ذاته سرية متقنة لمحاربتهم، لا يفقدها حتى آخر مشهد في الرواية عندما يقع في كمين نصبته له المخابرات السرية البريطانية على يد صديقه، ورفيق دربه نجيب الأهوائي.

مراد لا يصبغ على شخصيات "1919" أيَّ شكل من أشكال المثالية النرجسية، كما يقوم بعض من يكتب عن ثورات بلادهم. فرغم كل ما يكنه لقائد الثورة سعد زغلول من احترام، لكنه لا ينفي عنه ارتياده لبيوت القمار وإدمانه له، يضيف إلى ذلك نزعة زغلول غير المحدودة لحب الظهور. كذلك الأمر بالنسبة لشخصية أخرى هي عبد القادر شحاتة، الذي ينسلخ من أصول "فتوة" تتعامل مع الجيش البريطاني، ولا يتردد في التعاون معه، ولا يحتار في ممارسة تجارة المخدرات من أجل إرضاء نزواته، لكننا نجد حياته تنقلب رأسا على عقب، عندما يلقى والده حتفه على يد المحتل الإنجليزي، ويتحول إلى أحد عناصر المنظمة السرية "اليد السوداء"، ثم يقع في حب "دولت"، مدرسة تنتمي للمنظمة ذاتها، التي تضحي من أجله في سعيها لإطلاق سراحه من أجل إنقاذه من حكم إعدام يتربص به.

ومن أبرز الشخصيات التي يتوقف عندها القارئ "نجيب الأهوائي"، والذي لا يكف عن شحن شحاتة بحقن متتالية من الأمل خلال فترة المعتقل، كما أنه ينتمي إلى النواة الأولى التي شكلها أحمد كيرة في مرحلة مبكرة من النضال ضد المحتل البريطاني. ينكسر الأهواني، إثر عودة زغلول، والإفراج عنه، كي يكتشف أن من ضحوا لا يلقون التقدير الذي يستحقونه، ويرمى لهم بالفتات، بينما يغنم من انتصار الثورة بعض المتسلقين والانتهازيين. لذلك نجده يقسم بعزمه على الانتقام ممن "خانوا وركبوا الكرسي". ولا يجد متنفسا له في نهاية المطاف سوى إرشاد البوليس السياسي البريطاني عن مكان كيرة لقاء حفنة من النقود، لم يكن يتردد في رفضها أيام الإيمان بالثورة.

لا يحرمنا أحمد من مشاهد موازية للسياق الاجتماعي العام؛ فها هو يجسد في شخصية "سيلان أو ورد" الأرمنية كل أشكال الاضطهاد المركب التي تتعرض له امرأة تتضافر عليها قسوة الأنثوية مع الأقلية، فتضطر أن تقع فريسة ضعيفة لبيوت البغاء بعد تعرضها للاعتداء على يد "سلامة النجس" وفي منزل مرخص لممارسة البغاء تديره "بنبة العايقة".

وبخلاف ما ذهب إليه بعض من تناول الرواية بالنقد، لا يفاجأ القارئ بما تنتهي إليه؛ إذ يضعها مراد في إطار تاريخي لا يخلو من النكهة الأدبية إذ "مات سعد زغلول في 23 أغسطس من عام 1927... ومات عبد الرحمن فهمي عام 1946، بعد أن أسَّس أول اتحاد للنقابات في مصر... اعتنقت نازلي المسيحية ثم توفيت في مايو من عام 1978 في لوس أنجلوس بأمريكا عن عمر يناهز 84 عاما... عاش عبد القادر شحاتة حتى عاصر جلاء الإنجليز عن مصر سنة 1954 ولم ينس يوما دولت. أو يعرف مصيرها... لسنين طويلة انتظرت ورد ظهور أحمد... تركت الرهبنة في منتصف الثلاثينيات قبل أن تغادر مصر إلى مكان غير معلوم... مقبرة القديس يعقوب التي دفن فيها جسد أحمد كيرة تم هدمها عام 1928، وأقيم عليها ميدان تقسيم الشهير بإسطنبول".

ونختم كل ذلك بمقتطف على لسان مؤلف الرواية يقول فيه: "لا شيء أسوأ من ثورة مبتورة... وانتفاضة حرية تصبح بداية عبودية لا تنتهي، وما نحتاجه ليس سوى ثورة ثانية أكثر نضجا".

تعليق عبر الفيس بوك