في مسقط ولوزان: تفوقت وساطة عُمان وانتصرت إيران

ناصر أبو عون

يأتي الاتفاق الإيراني مع المجموعة الدولية (5+1) ليضع حدًّا لحالة الاستقطاب السياسي، وبداية لفصل جديد في العلاقات الدولية، بوساطة عُمانية نزيهة ووسطية وعقلانية، ويأتي هذا الاتفاق أيضا ليكون وقفة مع الذات العربية بعد التحوّل الدراماتيكي لمسار "الربيع العربي" الذي تحوَّل من "منقذ" كما أراده مؤيدوه إلى "ثورة مضادة" انتهت بـ"حروب طائفية وعبثية"، و"صراع مذهبي"، واستفزاز للنعرات القومية "عربية-فارسية"، ورغبة في "تقسيم بلدان المنطقة"، وإقامة دويلات طائفية وعرقية على أنقاضها. يأتي هذا الاتفاق ليفتح أُفقًا جديدا في العلاقات العربية-العربية، بعد أن تصدَّعت القومية العربية تصدعًا مدمرًا، بعد غزو الكويت وحصار العراق، ومشاركة أمريكا مع عرب مسلمين في قتال عرب مسلمين بشكل مباشر للمرة الأولى، ثم تواجدها العسكري غير المسبوق في المنطقة لحماية النفط.

فحالة التخبط وبؤر التوتر والاشتباكات لكثير من بلدان المنطقة، تُتيح الفرصة أمام قوى دولية وإقليمية منها إيران وتركيا؛ للعب أدوار مهمة تؤثر بطبيعة الحال على مستقبل هذه المنطقة برمتها، وتقود إلى صياغة معادلات إقليمية ودولية مغايرة لما درج عليه الماضي القريب لهذه الدول.

ومع المتغيرات الجيوبوليتيكية التي طالت الواقع السياسي في الإقليم والمحيط، وتبدّل موازين القوى الجيوستراتيجية بين أطراف النظام العالمي المتغير، ومع بروز الإرهاب كرافعة لكثير من حركات التغيير في المنطقة، وبروز إيران كلاعب إقليمي مؤثر وفاعل -بأذرع كثيرة- على المسرح الجيوبوليتيكي والجيوستراتيجي الممتد من أفغانستان وحتى البحر المتوسط، رأت الدول الكبرى أن تصل إلى "اتفاق مناسب" معها (اتفاق مصالح)، فكان اتفاق جنيف المؤقت هذا تعبيرًا عن رؤية جديدة وبراجماتية في حل الأزمات الدولية المعقدة بالطرق الدبلوماسية، والذي قد يؤسِّس لتفاهمات دولية قادمة تتناول حل أزمات أخرى مزمنة كقضية فلسطين، أو حديثة كأزمة سوريا، والعراق، أو ربما مواجهة مخاطر أكثر تعقيدًا وإلحاحًا مثل الإرهاب الديني والحركات التكفيرية الصاعدة في المنطقة بما يهدد مصالح الدول الكبرى ذاتها.

كان من المفترض إعلان هذا الاتفاق في مسقط، ولكنه تأجل لظروف فنية أو ضغوط إقليمية، ولكنه على كل حالٍ جرى على مدار 1500 ساعة، في مفاوضات جرت في تكتم شديد، ولم يكن على اطلاع بها وما يجري فيها إلا حلقة ضيقة جدا من المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين. وقد شارك في هذه المحادثات خصوصا كلٌّ من: وليم بيرنز نائب وزير الخارجية الأمريكي، وجيك سوليفان نائب مستشار نائب الرئيس بايدن للسياسة الخارجية. وبحسب المعلومات المنشورة، فقد أجرى الاثنان على الأقل خمس جولات من المحادثات السرية مع الإيرانيين. فقد ذكرت وكالة "إسوشيتد برس" للأخبار (في نوفمبر 2013) أن مسؤولين في إدارة الرئيس أوباما اجتمعوا سرًا مع الإيرانيين وجهًا لوجه، خمس مرات خلال العام 2013، في دولة عمان في محاولات لإيجاد مخارج لأزمة البرنامج النووي الإيراني. كما ذكرت الوكالة أن الرئيس أوباما قد أطلع بنيامين نتنياهو على نتائج هذه الاجتماعات السرية في أثناء زيارة الأخير لواشنطن في نهاية سبتمبر 2013.

وكتبتْ صحيفة "لوموند" الفرنسية في مقال مطوَّل لها، أنَّ سلطنة عمان لعبت دورا سريا كبيرا للمقاربة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية. وقالت الصحيفة إنه "إذا تحدّثنا عن إحدى الممالك الخليجية التي رحبت -دون أيّة دوافع خفية- بالتقارب الأمريكي والإيراني وتوصلهما إلى اتفاق بشأن الملف النووي الإيراني في نهاية نوفمبر الماضي، فإنها بلا شك سلطنة عمان"، موضحة أنه على عكس القطبين الثقيلين في المنطقة -السعودية والإمارات العربية المتحدة- اللتين نظرتا إلى هذا التقارب بعين قلقة، فإن سلطنة عمان حاربت من أجل إنهاء هذا الجمود الدبلوماسي بين أمريكا وإيران. وكشفت الصحيفة عن أنه خلال الأشهر القليلة التي سبقت توقيع تسوية جنيف بين مجموعة 5+1 ومبعوثي الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني، فقد لعبت سلطنة عمان دور الوسيط السري والفعال بين واشنطن وطهران، وأشارت "لوموند" إلى أن سلطنة عمان نجحت في التقريب بين "الشيطان الكبير" المتمثل في أمريكا، وبين قائدة محور الشر المتمثّل في إيران، موضحة أن هذا النجاح نتج عن التقارب الذي تحظى به هذه السلطنة تجاه إيران وأمريكا في نفس الوقت؛ فطهران لم تنس الموقف الحيادي الذي تبنّته السلطنة خلال الحرب الإيرانية-العراقية، كما أنَّ واشنطن لم تنس الدور الذي لعبته السلطنة في المصالحة العربية-الإسرائيلية عام 1990. وأوضحت الصحيفة الفرنسية أنَّ عمان نجحت في ترتيب أول لقاء بين مسؤولين إيرانيين وأمريكيين في مارس الماضي على أراضيها، مشيرة إلى أن هذا كان أول لقاء للطرفين اللذين يعتبران ألدّ عدوّين منذ 30 عاماً. وأفاد مسؤول أمريكي كبير بأن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ظل حتى اللحظة الأخيرة يتخوف من فشل مفاوضات جنيف حول الملف النووي الإيراني، كاشفا أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه هو أيضا ثمرة مفاوضات سرية بدأت قبل أشهر في سلطنة عمان.

ولكنَّ التساؤل الذي يجب طرحه: ما المكاسب التي حققتها إيران من وراء هذا الاتفاق؟ خاصةً وأنّ هناك العديد من المحللين السياسيين يثيرون الشكوك، ويشككون في مصداقية ونوايا الجانبين: (الغرب وإيران) تجاه دول (الشرق الأوسط)، ومن بين هذه التحليلات، تحليل نشره موقع "ستراتفور" الأمريكي الذي ينشر تقديرات ورؤى دوائر المخابرات. هذا التحليل أعتبر أنه بعد توقيع اتفاق جنيف، فإن الاهتمام الإستراتيجي الأمريكي يجب أن يتحوَّل من التركيز على المسألة النووية، إلى التركيز على أن تسعى أمريكا إلى أن تجعل من إيران قوة توازن في مواجهة القوى الإقليمية الأخرى، خصوصا الدول العربية السنيّة. والتحليل يتحدث في هذا الصدد عن (إستراتيجية "إعادة تأهيل إيران، بأجندتها الشيعية الراديكالية، في مواجهة التطرف السنيّ". ويعتبر التحليل أنه في ظل هذا التوجّه الإستراتيجي الأمريكي، من الطبيعي أن إطلاق يد إيران سوف يُقلل من شأن وموقع حلفاء أمريكا في المنطقة). ولكن المؤكد أن هذه المحادثات السرية تطرقت إلى إستراتيجية (أمريكا وإيران) تجاه قضايا المنطقة والعالم، وناقشت تفصيلات الموقف من القضايا الإقليمية، والأمر المؤكد أيضا أنه تم التوصل في هذه المحادثات إلى تفاهمات سرية بين الأمريكيين والإيرانيين حول هذه القضايا الإقليمية. وبصرف النظر عن تحليلات اليمين واليسار والوسط، فإنّ إيران حققت العديد من المكاسب الإستراتيجية أهمها:

أولا: "الإيرانيون حصلوا على كل ما يريدون" طبقا لتصريح السفير جيمس جفري نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي سابقا، والمسؤول السابق عن ملف إيران النووي في الخارجية الأمريكية.

ثانيا: نجح الإيرانيون بهذا الاتفاق -وبعد 36 عاما من النضال- في انتزاع اعتراف رسمي من العالم أجمع بأنهم دولة إقليمية ومؤثرة في المنطقة وأحداث العالم. ووصف أوباما اتفاق لوزان بـ"التاريخي". وقارن بينه وبين الاتفاقات التي عقدتها أمريكا مع السوفييت في عصر "الحرب الباردة".. قائلا: "تلك الاتفاقات لم تكن مثالية، ولم تزل جميع التهديدات، لكنها جعلتْ عالمنا أكثر أمنا، وهو ما ستفضي إليه الصفقة الجيدة مع إيران"، معربا عن اعتقاده بأن الاتفاق يخدم "أمن الولايات المتحدة وحلفائها والعالم كله".

ثالثا: نجحتْ إيران من خلال اتفاق لوزان في "كسر إرادة إسرائيل"، التي حرَّضت على ضرب إيران عسكريا؛ حيث وَصَف نتنياهو الاتفاق بالسيئ. وأشار إلى أنَّ "الحل لا يقع بين خيارين هما الاتفاق السيئ أو الحرب، بل هناك "خيار ثالث" وهو الوقوف بصرامة وزيادة الضغط على إيران حتى التوصل إلى اتفاق جيد. وقال: إن "إسرائيل تطلب أن يتضمن الاتفاق النهائي اعترافا إيرانيا بحق إسرائيل في الوجود". ويأتي هذا الاعتراف بعدما حثَّ أوباما إسرائيل على دعم الاتفاق قائلا إنه "الخيار الأفضل إذا كانت إسرائيل تسعى حقيقة لتفادي امتلاك إيران الأسلحة النووية.

رابعا: اعتراف القوى الدولية بحق إيران بتخصيب اليورانيوم، وحسبما قال روحاني: إن "التفاهم يصب بمصلحة الجميع، وسنفتح صفحة جديدة مع العالم بعد توقيع الاتفاق النهائي ورفع العقوبات". لافتا إلى أنَّ بلاده ترغب "ببناء علاقات جيدة مع دول الجوار في المنطقة، وإنهاء التوترات والصراعات".

خامسا: تعهد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة برفع كامل العقوبات المالية والاقتصادية المفروضة على إيران، وسيتبنى مجلس الأمن الدولي قرارا جديدا يلغي جميع القرارات السابقة حول الملف النووي ضمن جدول زمني محدد.

Nasser_oon@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك