ندوة العلوم الفقهية ناقشت الاجتهاد الإنشائي لدى الخروصي وشلتوت ومؤيدي

البادي: "الأوقاف" تبذل جهودًا كبيرة لتطوير علوم الفقه وبيان آثار علماء ومفكري الأمة

عفيفي: الحرص على الاجتهاد والتجديد من دلائل عظمة الدين الذي جاء ليحقق مصالح الناس

العزري: الفقه مرّ بالعديد من مراحل التطور المنهجي والنماء المعرفي والتجديد النوعي

 

الرؤية - محمد قنات

تواصل ندوة تطور العلوم الفقهيّة أعمالها بمشاركة عدد من العلماء والمفكرين والباحثين من كافة أنحاء العالم حيث يبلغ عدد العلماء المشاركين بأوراق العمل أكثر من 60 باحثا، وتتناول الندوة في دورتها الرابعة عشرة عددًا من المحاور منها الأصول النظرية لفقه العصر والنظريات الفقهية والمسار الجديد كما تناقش فقه العصر ومناهج الاجتهاد المعاصر والاجتهاد الإنشائي عند فقهاء العصر الحديث وفقه العدالة في الإسلام وفقه العصر في المجال الدولي وفقه العصر في مجال الأسرة وفقه العصر في المجالات الجديدة الذي يتناول العلاقة بين الفقه والقانون والتبرع بالأعضاء والتبرع بالدم والتجارة الإلكترونية وزواج المسيار والسفر.

وتناولت جلسات اليوم الثاني للندوة أمس، عدة أوراق عمل وبحوث، في محور "فقه العصر ومناهج الاجتهاد المعاصر" وركزت مجمل الأوراق على اجتهادت عدد من العلماء والفقهاء. واستعرض ناصر بن خلفان البادي بحث بعنوان "الاجتهاد الإنشائي عند العلامة ناصر بن أبي نبهان الخروصي"، وقال إنّ وزارة الأوقاف والشؤون الدينية تبذل مزيدا من الجهود، لتطوير العلوم الفقهية، وكشف مكنونات هذه العلوم، وبيان آثار من مضى من علماء ومفكري الأمة مع تسخير تلك الكنوز للإفادة منها في عالمنا الذي صار في أمس الحاجة لهذا التراث الذي يمكن أن يتفاعل مع احتياجات اليوم بصياغة تتناسب وتطور الحياة، ولا تتعارض مع قواعد الشريعة الكلية، وأن الفقه الإسلامي بمختلف مدارسه لم يزل نبعًا فياضًا متجددا، وتطرق إلى المكانة العلمية الراسخة للعلامة الخروصي والجرأة التي يتمتع بها العلامة الخروصي وإن خالف كبار علماء الفكر الذي ينتمي إليه.

وأوضح الباحث أن العلامة ناصر الخروصي تعرض لظلم فكري بسبب جرأته في تبني آراء تخالف آراء جمهور أهل الفكر الذي ينتمي إليه، كما أساء البعض فهمه، فنسب إليه ما لم يثبت عنه. لافتا إلى أن العلامة ناصر بن أبي نبهان من أبرز علماء عمان، وتأثر بمنهجه جمع غفير، بل إن العلامة جميل بن خميس السعدي صاحب موسوعة قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة، الذي تجاوزت أجزاؤها التسعين جزءا لا يكاد يغادر أي جزء أو مسألة إلا ويستشهد بقول ناصر بن أبي نبهان أو قول أبيه الشيخ الرئيس أبي نبهان، كما أن موسى بن عيسى البشري استشهد كثيرا بأقواله في موسوعته مكنون الخزائن، ولا يعقب عليه، وكأنّه تسليم بقوله. وأكثر المحقق سعيد بن خلفان الخليلي أكثر من الاستدلال بأقواله، ومال إلى عدد منها خاصة ما تعلق بعضها ببعض المسائل العقدية التي لم تثبت بدليل متواتر مقطوع به.

 

ألقاب متعددة وعلم غزير

وأضاف الباحث أنّ العلامة ناصر بن أبي نبهان أشير له بألقاب كثيرة مما يدل على نبوغه وعلمه الغزير، فهو العالم الرباني والبحر النوراني كما وصفه بذلك المحقق سعيد بن خلفان الخليلي في كتابه مقاليد التصريف، وهو المولوي والقطب والولي كما وصفه بذلك المؤرخ حميد بن محمد بن رزيق في مؤلفاته الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين وكتابه الآخر سبائك اللجين. وأوضح أن تلاميذ ناصر بن أبي نبهان الخروصي كثيرون، وقد بذل الباحث الأستاذ سلطان بن عبيد الحجري جهدًا في الكشف عن عدد من هؤلاء التلاميذ منهم خميس بن أبي نبهان الخروصي، ويحيى بن خلفان بن أبي نبهان الخروصي، ونبغ العلامة ناصر بن أبي نبهان في علوم مختلفة كالتفسير والحديث والأصول والفقه وعلم الكلام وعلوم العربية كالنحو والصرف والبلاغة والأدب والشعر والأخبار إضافة إلى علوم التاريخ والفلك والنبات، كما أنّه تعمق كثيرًا في علم السلوك (التصوّف) ولعله وصل فيه إلى حد لم يسبقه إليه غيره في الإقبال عليه والتعمق فيه. ومن مؤلفاته العلم المبين وحق اليقين، ويتألف من التوحيد لله المجيد، الكشف المبين في افتراق الصحابة والتابعين، تنوير العقول في علم قواعد الأصول، الأنوار الجلية في الأحكام الشرعية التنزيلية، لطائف المنن في أحكام السنن، الإرشاد في القياس والاجتهاد. وكذلك التهذيب بالنحو القريب في اللغة، وفلك الأنوار ومحك الأشعار في البلاغة والأدب وإيضاح نظم السلوك إلى حضرات ملك الملوك في السلو، والسر العلي في خواص النبات بالتدبير السواحلي.

وأوضح البادي في بحثه أن آراء العلامة ناصر بن أبي نبهان الخروصي أصبحت مرتكزا لعدد من المثقفين والمفكرين، الذين يرون فيه الفقيه والعالم المتحرر حسب رأيهم، وأنه العالم الذي يرجع كل رواية إلى الأصول الكلية للقرآن، وإلى القواعد المعتبرة، وهنا سأنقل نص العبارة التي ركنوا إليها في التدليل لما ذهبوا إليه ( قدم ناصر بن أبي نبهان منهجا أصوليا عرضه في العديد من مؤلفاته، والتي نقل منها العلماء كصاحب قاموس الشريعة جميل بن خميس السعدي، ورغم كون وفاته كانت عام 1262هـ إلا أن طرحه الأصولي لم يكتب له الانتشار والتوسع في عمان لأسباب عدة منها أن الحالة الثقافية في عمان اتجهت شيئا فشيئا إلى الإكثار من الاعتماد على الروايات، وأضاف أن اهتمام الباحثين كان منصبا على الجوانب السلوكية (التصوف) وعلى الجوانب العقدية الفرعية التي عُرف بها العلامة ناصر بن أبي نبهان، والتي خالف فيها أكثر الإباضيّة، بينما الجوانب الفقهيّة لم تحظ بتلك الدراسات، وربما يعود ذلك إلى أسباب منها تطبيقًا للأثر لا تضليل ولا تكفير ولا تفسيق في المسائل الفقهية، ولا تمثل المخالفة الفقهية ولو في داخل المذهب ظاهرة ينبغي التركيز عليها وإيلاء الإباضيّة الجوانب العقدية عناية أكثر من غيرها.

الاجتهاد الإنشائي

وبدأ دكتور محيي الدين عفيفي بحثه الذي جاء تحت عنوان الاجتهاد الإنشائي عند الشيخ محمود شلتوت بقوله إنّ من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن جعلها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتأخذ بأسباب التقدم والمعرفة والترقي، من خلال القراءة والبحث والتمحيص والتدقيق والاجتهاد والتجديد. وأضاف أنه عندما يذكر الاجتهاد والتجديد، تتأكد عظمة هذا الدين الذي جاء ليحقق مصالح الناس في ظل تعاليمه الميسرة التي عملت على مراعاة احتياجات الإنسان في هذه الحياة وشاء الله تعالى أن يقيض لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها من خلال النظر وبذل الوسع في طلب الحكم الشرعي. وقد كان الشيخ محمود شلتوت رحمه الله أحد الرواد في مدرسة التجديد والإصلاح في الأزهر الشريف حيث استلهم رؤيته الاجتهادية من النصوص الشرعية في الكتاب والسنة وبذل جهودًا في مكافحة الجمود والتقليد، وكان له منهج متميز في اجتهاده حيث اعتمد على الدليل والبرهان، ونبذ الانغلاق في الفكر، ورأي أن الجمود عند الموروث والاكتفاء به مصادم لما تقضي به طبيعة الكون وما تستلزمه من النمو والتوليد، فالتناسل الفكري كالتناسل النباتي والحيواني، ولو وقف التناسل الفكري لارتطم الإنسان في حياته بكثرة ما تلد الطبيعيات التي هو منها وعندئذ يعجز عن تدبير الحياة النامية.

وذهب عفيفي إلى أنّ سعة أفق الشيخ شلتوت، وتعدد مواهبه، مكنته من الاجتهاد والترجيح. وإشار إلى أن الاجتهاد في اللغة هو افتعال من الجهد والجهد - بفتح الجيم وضمها - الطاقة والوسع، وقيل: المضموم الطاقة، والمفتوح: المشقة وفي الأمر جهد: إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب (وهذا المعنى يفيد أن لفظ الاجتهاد يستعمل إذا بذل الشخص كل طاقة ممكنة حتى يبلغ غايته في البذل والاجتهاد اصطلاحًا هو استفراغ الفقيه الوسع، لتحصيل ظن بحكم شرعي( والمراد باستفراغ الوسع: أن يبذل الوسع في طلب الحكم بحيث يحس من نفس بالعجز عن مزيد طلب، كما قال الغزالي في الاجتهاد التام، والاستفراغ جنس، يشمل استفراغ الفقيه، واستفراغ المقلد، لذلك قيد بالفقيه، ليخرج المقلد، فإنّه وإن استفرغ جهده لا يسمى مجتهدًا.

واوضح عفيفي أن المجتهد خمسة أصناف، كما قسمه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وتبعه عليه وهي المجتهد المطلق والمجتهد المنتسب مجتهد المذهب، ومجتهد الفتوى والترجيح والحافظ للمذهب المفتي به المطلق هو الذي يستقل باجتهاده في الأصول، والفروع، والاستنباط من الأدلة، والتصحيح، والتضعيف للأخبار، والترجيح بينها، والتعديل، والتجريح للرواة، وغير ذلك من شروط الاجتهاد، يضع الأسس العامة لاجتهاده، ويمهد القواعد، ويوجه الأدلة، لا ينتسب إلى أحد، ولا يقلد أحدًا ولئن وافق في قاعدته قاعدة غيره، أو وافق فرعه فرع غيره، فإنما هو من موافقة الاجتهاد للاجتهاد، لا من قبيل التقليد وهذا هو حال الأئمة المجتهدين المتبوعين في القرون الأولى، كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والثوري، والأوزاعي، وغيرهم من أئمة الاجتهاد والمطلق رضي الله عنهم وأرضاهم، والمنتسب هو الذي بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، بالأخذ من الكتاب والسنة، إلا أنه لم يصل لدرجة الاستقلال الكامل في تأصيل الأصول الخاصة به فهو يخرج الأحكام على أصول إمام من أئمة الاجتهاد المطلق، كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.

قال ابن الصلاح: (فهو لا يكون مقلدًا لإمامه، لا في المذهب، ولا في دليله، لاتصافه بصفة المستقبل، وإنما ينسب إليه لسلوكه طريقه في الاجتهاد) ومجتهد المذهب وهو الذي لم يبلغ درجة المجتهد المطلق، ولا درجة المجتهد المنتسب، إلا أنه بلغ من العلم مبلغًا يؤهله أن ينظر في الوقائع، ويخرجها على نصوص إمامه، بعد معرفته بعلّتها، ووقوفه على حقيقتها وذلك بأن يقيس ما سكت عنه الإمام على ما نص عليه، أو يدخله تحت عمومه، أو يدرجه في قاعدة عامة من قواعده وقد يقوم باستنباط الأحكام الشرعية مباشرة من نصوص الشرع، متقيدًا في مذهب إمامه، مستقلا بتقرير أصوله بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده. أما مجتهد الفتوى والترجيح فهو النوع الرابع من أنواع المجتهدين، وهم الطبقة التي تلي طبقة أصحاب الوجوه، الذين لم يصلوا درجتهم في حفظ المذهب، والتمرس بأصوله وقواعده، والارتياض في الاستنباط، وغير ذلك من مسالك الاجتهاد ووسائله؛ إلا أنه لا بد أن يكون المجتهد في هذه المرتبة لا بد أن يكون فقيه النفس، حافظًا للمذهب، عارفًا بأقوال الأصحاب وأوجههم، مدركًا لتعديلاتهم وأدلتهم، متمرسًا بأدلة المذهب، يتمكن من تحرير المسائل وتقديرها، وترجيح بعض الأقوال على بعضها الآخر، وتزييف الضعيف منها حيث قال إبن الصلاح: وهذا لا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه، لكنّه فقيه النفس، حافظ مذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريرها، يصوّر ويحرر، ويمهد ويزيف ويرجح. لكنّه قصر عن أولئك لقصوره عنهم في حفظ المذهب، أو لارتياض في الاستنباط، أو معرفة الأصول ونحوها من أدلتهم.

 

التطور المنهجي والنماء المعرفي

وقدم عبدالله بن حمود العزري ورقه بحثية عن الاجتهاد الإنشائي عند الشيخ العلامة مجد الدين مؤيدي وقال فيها إنّ المتتبع للحركة الفقهية منذ فجر الإسلام وحتى اليوم يجد أن الفقه الإسلامي قد مر بمراحل متعددة من التطور المنهجي والنماء المعرفي والتجديد النوعي والتأصيل التقعيدي، ففي عصر الرسالة تكاملت مصادره التشريعية الأساسية، واستوعبها الإمام علي بن أبي طالب وعدد من الصحابة الكرام، وعملوا على كيفية الاستناد إليها، والاستنباط منها عند حدوث الوقائع وحلول النوازل.

وأضاف العزي أنه في عصر الصحابة تأصّل مبدأ التطبيق الفقهي، وإنزال الأدلة على تلك النوازل والوقائع بالإضافة إلى الاستنباط والاستقراء للوصول إلى الاستنتاج أو الاستدلال، وفي عصر التابعين توسّعت دائرة البحث الفقهي نتيجة للاحتكاك الحضاري بين المسلمين وبين الشعوب التي دخلت الإسلام، وخصوصاً بعد انتشار جماعة من فقهاء التابعين في عدد من الأقاليم ذات الثقافات المتنوعة والحضارات المختلفة، فظهرت نوازل جديدة وأحداث عديدة، وظهر ما يمكن أن يسمى بـ (الفقه الموائم) أو (الإقليمي) وفي آخر عصر التابعين وأوائل عصر تابعي التابعين، وحتى منتصف القرن الثالث الهجري، نمت حركة العلوم الفقهية كبقية العلوم، وكثرت التآليف في مختلف مجالاتها، وظهرت كتب الحديث وكتب الأصول، والتي رفدت المجتهدين بمواد الاجتهاد، فتوسعت أبواب الاجتهادات الفقهية وتطورت ومهدت لظهور المذاهب الفقهية. وتابع: على إثر ذلك كوّنت لكل مذهب من المذاهب الإسلامية ثروة فقهية ضخمة.

وأوضح أن هذه الندوة تؤكد حرص وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في سلطنة عمان على الاستمرار في تقديم أفضل الإسهامات في كيفية تقديم الفقه الإسلامي في أسلوب معاصر جامعاً بين الأصالة المرتبطة بالمرجعية الشرعية والمعاصرة التي تتطلب حلولاً ومعالجات جديدة، ويأتي موضوع الندوة لهذا العام في نسختها الرابعة عشر ليضعنا أمام مرحلة جديدة من مراحل التطور الفقهي، وتترجم ذلك الاستشراف بواقعية صحيحة ومنهج سليم.

 

معنى الاجتهاد المعاصر

وقسم العزري ورقته البحثية إلى ثلاثة مطالب: الأول عن الاجتهاد بصفة عامة، وتناول فيه تعريف الاجتهاد وشروطه وطبقات المجتهدين. وفي الثاني تطرق إلى معنى الاجتهاد المعاصر، وخصص جانبًا لترجمة السيد العلامة المجتهد مجد الدين المؤيدي. وقال إن شروط الاجتهاد كما ذكرها العلامة الورجلاني (إنّ الذي يجوز له الرأي والاجتهاد في النوازل، من كان عارفاً بوضع الأدلة مواضعها من جهة العقل والشرع والتوقيف فيها، ويكون عالماً بأصول الديانات، وأصول الفقه، وعالماً بأحكام الخطاب في فنون الشريعة من العموم والخصوص، والأوامر والنواهي، والمفسر والمجمل، والمنصوص والنسخ ويعلم من النحو واللغة ما يفهم به معاني الكلام، فإنه يحتاجهما للقرآن والسنة والآثار، ويحتاج في السنة والآثار إلى طريقهما، فإنه لا غنى للسنة والآثار عن تصحيح طرقهما، وعوفينا في القرآن من ذلك؛ لأنّ الله تعالى تولى حفظه، وأجمعت الأمة على متنه، فإن حرم المجتهد شيئاً من هذه الشروط كان راوية لا عارفاً، ومتفقهاً لا فقيهاً، ويكون صحيح الأمانة، مأمون الخيانة، سليم الديانة).

وأوضح أنّ ما ذكره الورجلاني في تحديد شروط الاجتهاد يعتبر من أفضل الضوابط إيفاءً واختصاراً واعتدالاً، ومن المستحسن إيراد ما ذكره علماء الزيدية وغيرهم من الأصوليين من الشروط، وهي تفسير لما أجمله الورجلاني، وهي أن يكون على معرفة اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن الكريم، وبها نزل، وكذلك لغة السنة النبوية المطهرة على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأتم التسليم. والحد اللازم في تعلمها: ما يتمكن به فهم الخطاب العربي، ومعرفة مفرداته، والتمييز بين الحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمحكم والمتشابه، والمطلق والمقيد والمفهوم، وغير ذلك مما يشمله علم النحو والمعاني والبيان، ولا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد، بل القدر الذي يمكنه من فهم السنة والكتاب، إلى جانب معرفة الكتاب باعتباره أصل الأصول، ومرجع كل دليل، وذلك بأن يعرف آيات القرآن جميعاً معرفة إجمالية، ويعرف آيات الأحكام فيه معرفة تفصيلية، وقدرها بعض العلماء بخمسمائة آية، ولعلهم يقصدون بها الآيات الدالة على الأحكام بدلالة المطابقة لا بدلالة التضمن والالتزام، ومعرفة السنة: وخصوصاً ما يتعلق بالأحكام، واختلفوا في القدر الذي يكفي المجتهد معرفته، فذكر الزركشي في (البحر المحيط) أنها ثلاثة آلاف حديث، ومعرفة أصول الفقه لأنه اشتمل على الضوابط الاستنباطية فيما فيه نص، والضوابط الاستدلالية فيما لا نص فيه ومعرفة مواضع الإجماع: وفي هذا المعنى قال الغزالي المتوفى (505هـ): (لا يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف، بل كل مسألة يفتي فيها، فينبغي أن يعلم أن فتواه ليست مخالفة للإجماع، إما أن يعلم أنّه موافق مذهباً من مذاهب العلماء أيهم كان، أو يعلم أنّ هذه واقعة متولدة في العصر لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض، فهذا القدر فيه كفاية) ومعرفة مقاصد الشريعة.

وحول ما هو المقصود بالاجتهاد المعاصر، قال إنّ المستجدات التي تظهر كل يوم وتطرح على المسلمين تساؤلاتها المتنوعة تؤكد ضرورة إحياء الاجتهاد المعاصر، والحديث عن الاجتهاد المعاصر يفرض علينا أن نحدد المعنى المقصود من الاجتهاد المعاصر. وأضاف أن الحق الذي لا مراء فيه، أنّ العصر، كل عصر، لا يجوز لنا أن نسايره مطلق المسايرة ونواكبه محض المواكبة، فكل عصر من العصور، فيه الصلاح وفيه الفساد، فيه ما يقبل وفيه ما يرفض، والمقياس هنا هو الحكم الشرعي القائم على صحيح الدين المستمد أساساً من القرآن والسنة الصحيحة، ولذلك فليس القصد في أن يكون الاجتهاد معاصراً، أن نعمل على إخضاع الاجتهاد لعصرنا، ونبذل الوسع في تكييف اجتهادنا مع عصرنا، فليس هذا من ديننا في شيء، وإنما نريد بالاجتهاد المعاصر، أن يُعبّر عن مصالح الجماعة الإسلامية وأن يراعي هذه المصالح مراعاة دقيقة، فلا يخرج عنها، وأن يلبي احتياجات الناس بما يفي بالقصد، بحيث يمهد لهم السبيل إلى الحياة السوية والمستقرة والعيش الكريم. واستدل على ذلك بقول الدكتور يوسف القرضاوي: (إنه ينبغي أن نحذر من الوقوع تحت ضغط الواقع القائم في مجتمعاتنا المعاصرة، وهو واقع لم يصنعه الإسلام بعقيدته وشريعته وأخلاقه، ولن يصنعه المسلمون بإرادتهم وعقولهم وأيديهم، إنما هو واقع صنع لهم، وفرض عليهم، في زمن غفلة وضعف وتفكك منهم، وزمن قوة ويقظة وتمكن من عدوهم المستعمر، فلم يملكوا أيامها أن يغيروه أو يتخلصوا منه، ثم ورثه الأبناء من الآباء والأحفاد من الأجداد، وبقي الأمر كما كان، فليس معنى الاجتهاد أن نحاول تبرير هذا الواقع على ما به، وجر النصوص من تلابيبها لتأييده، وافتعال الفتاوى لإضفاء الشرعية على وجوده).

 

 

تعليق عبر الفيس بوك