عجوز تسكن صدرها الكحة وفي يدها سيجارة!

مريم العدوي

1

يبدو عنواناً طويلاً لقصة مملة، لا بأس، من يبالي؟!

2

يقف روبن وليامز في فيلم (باتش آدمز) ليلقي بضع كلمات كانت مختصر ثلاث نصائح لأطباء العالم ومنها..

( الموت ليس العدو، أيها السادة إن كنّا سنحارب مرضًا، فلنحارب واحداً من أفظع الأمراض قاطبة، ألا وهو "اللامبالاة")

3

حكاية ربما نعرفها جميعاً

كان واحداً من الأطفال الذين هُربوا بطريقة ما من مخيمات دولة مجاورة لوطنه المنكوب، يتسول الفتات في ليالي الشتاء القارص بملابسه الرثة وعينيه اللتين تحكيان كل قصص البؤس والشقاء بصوته الضعيف وكأنه يحدث نفسه؛ لفرط التعب يكرر العبارات التي بات يطلقها ربما حتى في نومه ملامساً عاطفة المشاة في الطرقات. يمر عليه شاب عشريني عند كل مغيب في طريق عودته من الكلية بوجهه المكفهر وكاهل يحمل هم المعدل الذي لا ينفك يتقوقع إلى الأسفل، يشيح بوجهه بعيداً عن الطفل فنقوده أن سدت جوع هذا الطفل فلن تسد جوع ملايين من المحرومين في العالم، كما أنّه يحاول منذ مدة جمع مبلغ لشراء هاتف ذكي جديد. يُوقِف سيارة أجرة يحرق سائقها رئتيه بنشوة دون أن يُرعي لصوت المذيع الذي يمط الحروف على نحو مفتعل؛ ليسترعي انتباه المستمعين، أي انتباه. بإمكان السائق أن يفكر في إمكانية شراءِ دولابِ جديد عوضاً عن الاهتمام بعدد القتلى في بقعة ما في الأرض، ُينهي المذيع قراءة الأخبار؛ لتسقط على رأسه فكرة استبدال النظارة الطبية بالعدسات اللاصقة علّه يحظى بنقلِ إلى خارج الأستوديو الإذاعي.

هي ذات الدراما بتفاصيل مختلفة قليلاً تطحننا هنا وهناك، تلسعنا اهتماماتنا الشخصية ولا تنفك عجلة المتطلبات اليومية تعلكنا حتى (مطتنا) كفاية وأصبحنا لا نبالي مهما ارتفعت الأرقام أو توشحت الأخبار بالغرابة، ربما رضعنا كلمات مثل: قُتل وانفجر وراح عدد من الضحايا وأعرب فلان عن قلقه أو كنّا تحت الدواسة تماماً وتحطمت يوماً رؤوسنا فكيف عسانا نبالي بعلو المد أو انحسار الجزر اليوم؟! حقا كما كتبت غادة السمان يوما: "اللامبالاة هي آخر فصول الوجع".

لا نستطيع اليوم أن ننكر أن (اللامبالاة) أصبحت مرضا عضالا وماركة معولمة طالت الصغير والكبير؛ فالطلاب غير مبالين بدراستهم ولا المديرين بتوجهات إدارتهم وهلم جرا لعموم العالم إلا فئة قليلة كادت تختفي. وحسب علم النفس اللامبالاة هي: "حالة وجدانية سلوكية، معناها أن يتصرف المرء بلا اهتمام في شؤون حياته أو حتى في الأحداث العامة كالسياسة وإن كان هذا في غير صالحه"، تقول ميلان كونديرا: "هذه اللامبالاة أصبحت العاطفة الكبرى الجماعية الوحيدة في زمننا". أما البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان فإنّه يرى أن اللامبالاة طالتها يد العولمة حيث قال: "إن ثقافة الرخاء تفقدنا الإحساس بصرخات الآخرين وتؤدي إلى عولمة اللامبالاة". وتوافقه هيلين كيلر الرأي حيث قالت: "ربما أوجد العلم علاجاً لمعظم الشرور، ولكن لم يجد بعد علاجاً لأسوأ تلك الشرور ألا وهي اللامبالاة وفقدان الحس عند الإنسان".

بينما البعض يرى في اللامبالاة حلاً لكل مصائب العالم التي يبدو أنها لا ترغب بالتوقف!.

وللمبالاة أسباب كثيرة منها: ما هو عضوي كالإفراط في تناول فيتامين (د) أو كأثر جانبي لبعض الأدوية أو التعب العام. ومنها ما هو نفسي، فهناك علاقة طردية بين اللامبالاة والاكتئاب، كما تعمل الأنا خلال دفاعها على حدوث التبلد والانطواء حين تعجز عن الوصول لمرادها. كما أن للجانب الاجتماعي بُعداً آخر نتيجة للبطالة وانعدام تقدير الذات والحرمان المؤدي للميول العدوانية، والضغوط النفسية ناهيك عن مشاهد الحروب المروعة، ونشأ مصطلح (صدمة القذيفة) إبان الحرب العالمية الأولى مخلفاً جنوداً لا مبالين ومنطويين وبعيدين عن التفاعل الاجتماعي بعد ما شهدوه من مشاهد مروعة في الحرب. كما أن العجز عن القيام بأيّ فعل إزاء الأحداث المرفوضة على أرض الواقع يشكل سياجاً من السلبية يحد من تفاعل واندفاع المرء بإيجابية.

بينما أفلاطون يرى أنّ ثمن اللامبالاة باهظ حيث يدفعه الطيبون الذين لا يبالون بالشؤون العامة فيصبح الأشرار هم من يتحكمون بهم.

وفي خضم كومة المؤيدين للامبالاة كسبيل للخلاص من طاحونة كل الهموم الفردية والجماعية، وبين معارضين يجدون فيها أنانية وشراً يؤدي بالبشرية نحو التهلكة يرى خالد الهذلول الأمر من زاوية معادلة حيثُ قال: "في جميع أمورنا يجب أن نأخذها مأخذاً لا غلو فيه ولا جفاء، أما جفاؤها فسيؤدي إلى حالة (اللامبالاة). التي ستنتج فيما بعد خطأ سلوكياً وأما الغلو فيها فسيكب على النفس حرصاً زائداً عن قدره المطلوب، الذي هو أيضاً سيفضي فيما بعد إلى الخطأ في أداء العمل".

ولله المثل الأعلى فلقد قال تعالى في محكم آياته: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، سورة الرعد، الآية11. داعياً المؤمنين ليبادروا إلى تغيير كل أنماط حياتهم السلبية والمرفوضة نحو الأفضل. ولمن اتخذ (اللامبالاة) أسلوباً لحياته أين هو من مسؤولية المؤمن تجاه مجتمعه؟ روى أبو موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً).

4

"وقلت له مرة غاضباً: كيف تحيا غداً؟

قال: لا شأن لي بغدي ... إنّه فكرة

لا تراودني. وأنا هكذا هكذا: لن

يغيرني أي شيء...فلا تحجب الشمس عني

فقلت له: لست اسكندر المتعالي

ولستُ ديوجين

فقال: ولكن في اللامبالاة فلسفة،

إنها صفة من صفات الأمل!"

لمحمود الدراويش نقول: ربما !

5

اللامبالاة الزائدة عن الحد الطبيعي مرض لا يمكن الاختلاف على ذلك، ويعتمد أسلوب العلاج تبعاً لكل حالة، ويعتبر العامل المعرفي مهماً فيما إذا كانت الحالة لسبب نفسي.

تعليق عبر الفيس بوك