صناعة التطرُّف

 

حميد السعيدي

 

إن التطرُّف لا يأتي هكذا صدفة، وإنما نتيجة لعمل مُخطَّط قائم على بناء تعليمي وديني وفكري يُغرس في النفوس بطريقة مُتسلسلة؛ بحيث يُصبح الفرد جزءا من أفكار متطرفة تقوم على الصراع الفكري والتعصب المذهبي أو الحزبي، ويصل لمرحلة أن يضحِّي بذاته من أجل أفكاره التي ينتمي إليها؛ لذا فما نشهده اليوم في منطقة الشرق الأوسط هو نتيجة لهذا التطرف. وما أدلُّ على ذلك ممَّا حدث في المنطقة؛ فما أُطلق عليه "الربيع العربي" والذي خلَّف مئات الآلاف من القتلى ومساحات هائلة من الدمار والخراب، وأصبحت بعض الدول معرَّضة للتشتت والاندثار، وهذه كانت ثمار ما يمكن تسميته مرحلة الفوضى العربية أو الربيع الأسود.

... كثيرة هي التحليلات التي تحدَّثت عن هذه الوضع القائم، وكِيْلت كل الاتهامات للغرب بأنه هو السبب الرئيسي لما حدث لنا، ولكن نسوا "ما حك جلدك غير ظفرك"؛ فالاقتتال الذي حدث هو نتيجة لصناعة عربية متطرفة حتى ولو حصل على تدخل غربي؛ لأنها جاءت بأموال عربية دفعت لدعم الحركات الإرهابية من أجل القتل وأحداث الدمار والخراب، ضاربة عرض الحائط بكل مواثيق عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، هذا الدعم المالي رافقته آلة إعلامية انطلقت إلى إثارة الشعوب وتضخيم الأحداث، وقُدِّم لها الدعم المالي والفكري لتوجيه الشعوب للثورات والقضاء على السلطات، ثم الاقتتال تحت راية الدين والمذهب والتعصب، إضافة إلى تلك الحناجر "دعاة الفرقة" ومزامير الحرب التي تذاع على منابر الدين وتعمل على تأجيج الأحداث، وتضخيم التعصب المذهبي، وتحث الشباب على الذهاب للمشاركة في الاقتتال وشد الرحال لمواقع الفوضى للمشاركة في تحرير الإنسانية، بل وصلت بهم الحال لإجازة ما هو محرَّم، والتشجيع على تطبيق أفكار دينية متطرفة.

ألم تكن تلك عربية! ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، إلى يوم تلقون ربكم". فما حدث هو نتيجة للابتعاد عن منهج الإسلام الحقيقي، وثمرة للتعصب الديني والفكري والسياسي والتحزب والتكفير المذهبي؛ مما ساهم في إيجاد بيئة مُتهيئة لأي حدث قد يشعل فتيل الحرب والاقتتال؛ حيث أصبحتْ النفوس جاهزة؛ لذا فإنَّ ما حدث جاء بأيدٍ عربية خالصة تحت مسمى البحث عن الحرية والديمقراطية؛ فهم من حملوا السلاح وقتلوا الأطفال والنساء والعزل، هم من صنعوا المتفجرات التي دمرت المدن والعمران، وفي ظل هذه الفوضى تأتي تلك الأصوات بعد أن أصبح الوطن العربي وطنَ الحرب والصراعات والإرهاب، بأن تخلي مسؤوليتها مما حدث، وأنَّ الغرب هو من تسبَّب في ذلك، وأنه يتوجب علينا أن نصدق تلك الأكذوبة.

وفي الوقت ذاته، ظلَّت عُمان بلد الأمن والاستقرار تغرِّد بعيدا عن تلك الفوضى، بعيدة كل البعد عن تلك الإحصائيات التي تتحدَّث عن الدول المشاركة، وهذا يدل على نهج السلام الذي تميَّز به العُمانيون على مدى العصور الماضية والحاضرة، هو ذلك النهج الذي انتهجه جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم "وليعلم الجميع أنه ليس لدينا مخططات أو نوايا عدوانية ضد أحد... كما أننا لا نرفض صداقة أحد، بل نؤمن إيمانا راسخاً بأن مستقبل هذا العالم يُكمن في التعايش السلمي والتعاون البناء بين البشرية جمعاء... وأننا لن نتوقف عن العمل لتحقيق هذه الغايات لنبيلة". هذه الرسالة السامية التي طافت العالم أثبتت نجاحها بتلك العلاقات العُمانية مع جميع دول العالم وشعوبها، نتج عنها احترام وتقدير للعُماني أينما تواجد.

وفي ظلِّ هذه السياسة العُمانية، فإنَّ هناك مَنْ يُحاول العبث بذلك، مستغلا شبكات التواصل الاجتماعي في تكوين مجموعات شبابية تأخذ واجهة دينية أو وطنية تبدأ تدريجيًّا بجذب الشباب للانضمام لها من خلال العديد من عوامل الجذب الديني، وبهدف نشر الثقافة والمعرفة الدينية والوطنية بشكلها الظاهري؛ لكنها سرعان ما تبدأ في حراك داخلي بهدف خلق الضغائن والتعصبات بين الشباب بإدخالهم في صراعات مذهبية لمناقشة قضايا دينية مرتبطة بمعتقدات ظهرت منذ قرون، وانتهاء عهد النقاش بها، لكن تعاد من جديد من خلال استهداف هذه الفئة من المجتمع واستغلال التطور التقني في شبكات التواصل الاجتماعي؛ بحيث تسبب شرخا في العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الذي طالما ظل بعيدا عن تلك التعصبات المذهبية. وبقراءتي لبعض هذه التجمعات فإنَّ نهجها يتمثَّل في الآتي:

1- الطابع الديني الظاهري في بناء هذه المجموعات، وأنها قائمة على توعية الشباب وحثهم على المعرفة الدينية في بدايتها، ثم ما تلبث تدريجيا أن تبث أفكارها المتطرفة.

2- طرح قضايا دينية بها اختلافات مذهبية مما يُحدث صراعًا وحوارًا يسبب العديد من الضغائن بين المذاهب التي ينتمون لها؛ مما يُحدث شرخا في الانتماء الديني، ويرفع من مستوى التعصب المذهبي.

3- نشر العديد من التسهيلات الدينية وإجازة المحرمات بفتوى وأحاديث ضعيفة هادفة لجر الشباب للدخول في هذه المحرمات الدينية.

4- إقناع الشباب بوجود أخطاء في مذاهبهم الدينية بوسائل متنوعة، وتسهيل بعض الإجازات الدينية؛ مما يساهم في تغيير توجهاتهم وانتماءاتهم، ونشر الفكر التكفيري.

5- الاهتمام بدمج المجموعات برجالات دين متطرفين من أجل التأثير الفكري والعاطفي لهؤلاء على فكر الشباب.

6- طرح العديد من القضايا الوطنية التي لا يعرف حيثياتها واستغلال حماس الشباب وضيق فكرهم ومعرفتهم في تحريك عواطفهم ضد البلد.

7- المقارنات الخاطئة بين دول المنطقة والتقليل من المنجزات الحضارية العمانية؛ بحيث تصبح نظرة الشباب تجاه وطنهم وضيعة ومشتتة.

... إنَّ هذا الأمر سيأخذ وقتا طويلا، لكنه سيُحدث العديد من التراكمات الفكرية والتعصبية لدى فئة الشباب؛ مما يُضعف من مقدرتهم على معالجة العديد من القضايا الفكرية والدينية بأسلوب علمي ومنطقي؛ لذا فإنَّ المؤسسات الرسمية التربوية والدينية والإعلامية يتوجَّب عليها اليوم العمل على تحصين الشباب فكريا ودينيا في مواجهة هذه الأفكار المتطرفة وكيفية الاستفادة من التقنيات الحديثة بأسلوب هادف، خاصة وأنَّ هذه الوطن ظل طوال العقود الماضية يقر بالتنوع المذهبي، تحت مظلة دين واحد، وتحت راية التسامح الفكري والاجتماعي، ولكن علينا ألا نبقى هكذا ننتظر ماذا سيحدث في المستقبل دون حراك!!

وإننا نستقرئ من كلمات جلالة السلطان العديد من التوجيهات في التعامل مع التطرف، والذي ترفضه البيئة العُمانية: "إنَّ التطرف مهما كانت مُسمَّياته، والتعصب مهما كانت أشكاله، والتحزب مهما كانت دوافعه ومُنطلقاته، نباتات كريهة ترفضها التربة العُمانية الطيبة التي لا تنبت إلا طيبا، ولا تقبل أبداً أن تلقى فيها بذور الفرقة والشقاق".

Hm.alsaidi2@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك