المعرفة.. بين التنويع والتخصص

أسماء القطيبيَّة

إنَّ تقدُّم المجتمعات ورقيِّها -كما أثبت التاريخ- لا يمكن أن يحدث بتكرار التجارب ذاتها في كل مرة، وإنما حين يستطيع أصحاب الحضارة اكتساب المعارف الأساسية والخبرات، ثم إعادة النظر إليها بعين ناقدة؛ لذا كانت نظريات كانط وأرسطو وغيرهما من الفلاسفة والمفكرين أُسس بنيت عليها معارف كثيرة في شتى المجالات. وكانت آراء أفلاطون حول المرأه -التي كانت توضع في أسفل تصنيفات المجتمع اليوناني- مدخلا للحديث حول حقوق المرأة ودورها في المجتمع، كما أنَّ نظرية هيروقراطس المتمثلة في الاعتدال في الحياة للحصول على صحة جيدة هي نصيحة الأطباء حول العالم إلى اليوم.

وفي هذا العصر، تشعَّبت العلوم، وكثُرتْ النظريات؛ بحيث أننا لم نعُد نعرف كيفية التعامل مع هذا الكم من المعلومات المكتوبة، والمرئية، والمسموعة على وسائل الإعلام، وفي مقدمتها الشبكة العنكبوتية. بل إنَّ معاييرنا في الاختيار صارت مُتذبذبة بسبب هذا التدفق الهائل على المستويين الكمي والكيفي، خاصة وأنه بين فترة وأخرى تُثار ضجَّة حول حدث أو فيلم معين. وهنا نتساءل: هل يجب أن نكون على اطلاع ومعرفة بكل ما يُلاقي شهرة، ويثير اهتمام شريحة كبيرة من الناس لنبدو مُنسجمين مع ما حولنا؟ أم أنَّنا يجب أن نكون أكثر انتقائية في اختيار ما يلائم توجهاتنا وذائقتنا؟ على الأغلب نحن نفضِّل أن نكون على اطلاع بكل جديد؛ لذا نتابع أفلام الـTop 10، ونقرأ أشهر الروايات العالمية رغم أنها قد تكون خارج مجال اهتمامنا واستمتاعنا. لكنها تشبع فينا ذلك الفضول في مشاركة الآخرين، ومواكبة اهتماماتهم. أما إذا ما حدَّدنا معاييرنا الخاصة فيما نبحث عنه من معرفة فإنَّ هذا قد يرفع من وعينا الفكري حول مجال اهتمامنا أو تخصُّصنا، لكنه سيجعلنا غُرباء نوعا ما في اللقاءات الإجتماعية التي تستخدم المعرفة المشتركة أداة للتواصل مع الآخر، وتقييمه في بعض الأحيان.

إننا -كمجتمعات عربية- نبدو سلبيين في التعامل مع المعرفة وأدواتها. جزءٌ من الأمر كونها متاحة ويمكن الحصول عليها بضغطة زر، بعكس ما كان عليه الأمر من مشقَّه قبل عشرات السنين، حين كان الناس يُسافرون بحثا عن العلم. الأمر الآخر أنَّنا تعوَّدنا على التلقي دون تكبد عناء الإضافة، ويكفي أن نعرف أن المحتوى العربي لا يتجاوز الـ3% من إجمالي محتوى الإنترنت؛ لندرك أنَّنا لا نكاد نساهم في تطور البشرية معرفيا بشي يذكر. ولعلنا لا نفعل ذلك للعراقيل الكثيرة التي تواجه أصحاب الفكر من تهميش وتضييق. كما أنه لا يوجد في كثير من بلداننا احترام حقيقي لحقوق الملكية الفكرية للأفراد؛ باعتبارها جهودًا مخلصة في سبيل التقدم. والعجب كل العجب أنْ تقوم بعض الدول التي تتشدَّق بأنها تشجِّع على التطوير والابتكار بوضع القوانين والإجراءات المعقَّدة في طريق حصول أحد أفرادها على براءة اختراع مثلا؛ مما يضعه بين مطرقة الصبر وسندان الهجرة إلى الخارج. وهما أمران أحلاهما مُر. هذا عدا ما يُواجهه المثقفون من رقابة صارمة تجعلهم مقيَّدين في حدود معينة للتعبير، وهذا يحدُّ بالطبع من إمكانية نشوء جو ثقافي حقيقي يقوم على تقارع وتلاقح الأفكار في المنطقة.

... إنَّ التخصُّص هو سبيلنا الوحيد للتعامل مع المعرفة بشكل واع وسليم؛ لأنَّ تخصُّص الأفراد في مجالات معينة منذ الصغر بمساعدة الأسرة والمؤسسات التعليمية يجعل فرص الإبداع أكبر، وينتج معارف جديدة؛ فالمعرفة ما هي إلا ثمرة الاتصال بين الذات المدركة وموضوع مدرك، مع ما يتطلبه هذا الاتصال من شغف ودافع يصدر من الشخص نفسه. أما إذا انتفى هذا الأمر، فإنَّ تكديس المعلومات فوق بعضها البعض لن يثمر أي جديد يضاف للمجال. وهذا بالطبع لا يعني أن يعتزل الفرد كل معرفة لا تخص مجاله، ولكن أن يكون على معرفة عامة بالمجالات الأخرى، دون أن ينصِّب نفسه مختصا فيها كما يفعل بعض الناس، حيث تراه يتحدث في كل مجال بثقة عجيبة، ويرفض كل رأي عدا رأيه. وهذا الشخص برأيي لم يجد المجال المناسب ليوجه إليه جهده، ويعطيه حقه في الدراسة والبحث والتحليل؛ لذا فإنه يبدِّد طاقته الفكرية في مواضيع عدة. ولو أنه ببعض التوجيه والدعم تعرَّف على ما يثير اهتمامه أكثر، وسعى للتعمُّق فيه لكسبنا مُختصًّا متحمِّسا، ولعله أضاف لمجاله ما يفيد البشرية ويخدم المجتمع.

Asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك