قبل ضياع الفرصة المناسبة

عبيدلي العبيدلي

ما إن يلتقي اثنان أو أكثر من أبناء البحرين، حتى ينطلق بينهم نقاش سياسي، يتفاوت بين الحدة اللاهثة، والهدوء المترقب، يتمحور حول ثلاث قضايا مركزية بارزة، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

1 - أزمة اقتصادية، من المجحف توجيه مسؤوليتها المباشرة لأحد، فهي في جوهرها أزمة عالمية تتكرر بين الحين والآخر، وهي اليوم تعصف بدول أخرى من أبرزها اليونان ودول أوروبية أخرى. تتفاقم الأزمة في البحرين جراء تراجع أسعار النفط، وهو المزود للدولة بنسبة عالية من مداخيلها، وبنسبة أعلى من المساعدات التي تتلقاها من شقيقاتها من دول الخليج العربي. هذه الأزمة من المتوقع لها أن تطول؛ وما يضاعف من خطورتها أنّ اقتلاع جذورها رهن بعوامل كثيرة لا تملك البحرين القدرة على تغيير مسارات عناصرها المسببة لها.

2- أزمة اجتماعيّة تقف وراءها تشنجات مذهبيّة، وهذه هي الأخرى ليس الواقع المجتمعي البحريني وحده المسبب لها. فلو تريّث المراقب للمشهد السياسي العربي قليلا، واستعاد شريط ذكرياته السياسي، سيجد أنّ دولا عربية أخرى، أكثر تقدمًا من المجتمع البحريني، وقعت في أتون مستنقع الصراعات المذهبية، بل الصدامات الطائفيّة، التي تمظهرت في أشكال مختلفة، وعبّرت عن نفسها في نماذج متفاوتة. تحضرنا هنا الحالة اللبنانية، التي أنهت عقدها الرابع، دون أن تجد لنفسها أي حل. ما يضاعف من تداعيات الأزمة الاجتماعيّة البحرينيّة، صغر المجتمع سكانيا، ومحدودية رقعته الجغرافية مساحة، وتوسطه دائرة صراعات مذهبية شبيهة من الناحية السياسية.

3- أزمة سياسية، ومن يراجع تاريخ البحرين الحديث سيكتشف دورية مثل هذه الأزمة كل عشر سنوات مرة، لكنها كادت أن تختفي مع انطلاقة المشروع الإصلاحي، الذي انتشل البحرين من أوحال "قانون أمن الدولة" السيء الصيت، ووضعها على أعتاب مرحلة جديدة، وضعت حدًا لأزمات متلاحقة منذ تعليق أعمال العمل البرلماني في منتصف السبعينيات من القرن الماضي. والحديث عن أزمة سياسيّة ليس مدعاة للدخول في حالة من اليأس، بقدر ما هو الإشارة إلى العلاقة الحيوية التي تربط أي شعب بالسلطة القائمة. مثل هذه الحيوية هي التي تدفع الشعب إلى المطالبة، وتشجع الدولة على الاستجابة، وبالمقابل تدفع الدولة كي تأخذ زمام المبادرة، وتحفز الشعب على التجاوب، ويؤدي كل ذلك إلى تقدم المجتمع وتطوره.

من الخطأ القاتل أن يقودنا تشخيص مثل هذه الأزمة الثلاثية الأبعاد، إلى حالة من اليأس، أو أن يوقعنا في مستنقع الاستسلام، فاستمرار حيوية أي مجتمع، بكافة مؤسساته، الاجتماعية والسياسية والتنفيذية، بل وحتى التشريعية، رهن بقدرته على التصدي لأي شكل من أشكال اليأس، ونبذ أي دعوة للاستسلام، والبحرين ليست حالة استثنائية.

وعليه فالمطلوب اليوم، أكثر من أي يوم مضى، أن يعمل الجميع، دون أي استثناء من أجل الخروج من هذه الأزمة، فمنطق الأمور يفترض أن ليس هناك في عموم البحرين من له مصلحة حقيقية في استمرارها، دع عنك تناميها واتساع رقعتها. ويمكن أن يتم ذلك وفق خطوات محسوبة بدقة فائقة، وعناية حذرة، في الوسع تلخيصها في النقاط التالية:

1- الاعتراف بوجود الأزمة، فأي محاولة لنفيها أو إنكار مظاهرها، لن يكون مجديا، وهنا ينبغي التذكير بأنّ الاعتراف بالأزمة، لا يعني إطلاقا القبول بها أو الخضوع لإفرازاتها، فالعكس هو الصحيح. ولتبسيط الأمور، دون تسطيحها، ليس في وسع أي طبيب يسعى لشفاء من يعاوده من المرضى أن يصف لهم الدواء قبل أن ينجح في تشخيص الداء. والطبيب الناجح هو الذي لا تجرفه الأعراض فتحول دون رؤيته الواضحة للأسباب، فبينما تتشابه الأعراض، تتباين الأسباب، وما ينطبق على الإنسان الفرد، ينطبق على المجتمع أيضًا، الذي هو الآخر بحاجة إلى قائد محنك يميّز بالفراسة المطلوبة بين أعراض أية أزمة وبين المسببات التي تقف وراءها.

2- رغبة جميع الأطراف الضالعة في العملية السياسية الجادة والصادقة في تجاوز تلك الأزمة. فما لم تتوفر مثل تلك الرغبة الشاملة، ومن قبل الجميع، يصعب القول بقدرة البلاد على الخروج من أزمتها. ويكفي خروج طرف واحد من الاجماع، كي تستمر الأزمة وتتصاعد تداعياتها، وتزداد الحلول البسيطة تعقيدًا حتى يجد الجميع أنفسهم أمام أبواب موصدة يصعب فتحها، وجدران عالية من المستحيل تجاوزها. الإجماع هنا ضروري جدا، ويستمد قوته من قدرة أي طرف مخالف له، على تعكير أجواء مساعي الوصول إلى حل.

3- تلي مرحلة التشخيص الحصيف، وتوفر الرغبة الصادقة، فترة التمييز بين السبب الرئيس الأسباب الثانوية، تحاشيًا للهث وراء الأخيرة، وغياب الأول. إذا غالبًا ما يولد السبب الرئيس الكثير من الأسباب الثانوية التي تنتهي تأثيراتها، بالقضاء على مسببات الأول. وهنا يأتي دور الخبرة السياسية التي بوسعها وحدها أان تضع اليد على الجرح الحقيقي الذي قاد إلى النزيف الذي حال دون الوصول بالبلاد إلى شواطئ الأمان.

ربما يتوهم البعض أنّ حل مشكلة البحرين، رهن فقط بحل المشكلات الإقليميّة، فهذه الأخيرة أكثر تعقيدًا وأشد تأثيرًا، ولكن هذا المنطق مبتور من جذوره. فرغم صحة الشق الأول منه وهو عمق تأثير الأوضاع الإقليميّة على مسار الصراعات في المجتمع البحريني، لكن هذا الأخير سيفقد أية فرصة من أجل الاستفادة للخروج من أزمته، ما لم يبادر فيهيئ نفسه كي يكون مستعدًا للاستفادة من أية ترتيبات إقليميّة في حال وقوعها.

وبين التهيؤ الإيجابي والانتظار السلبي هناك مسافات فلكية لا تكشفها إلا عين الخبير، وذلك الخبير الذي يرفض أن تستمر البحرين فيما هي عليه اليوم.

الفرصة اليوم سانحة كي تبدأ البحرين مسيرة التهيؤ، فمارثون أزمة الشرق الأوسط يقترب من نهاياته، وليس هناك مجال لأي شكل من أشكال التردد.

تعليق عبر الفيس بوك