سيوف الدويلات وقصائد الطوائف

عبيدلي العبيدلي

لم يعد المشهد السياسي العربي مثيرًا للحزن فحسب، بل بات منذرًا بمستقبل أسود يمكن أن يعيد المجتمع العربي قرونا إلى الوراء. فشاء العرب أم أبوا، يشق الواقع العربي القائم، وبقرار ذاتي، خندقًا عربيًا طائفيًا متعرجًا أشبه بثعبان فاغر فاه مكشر عن أنيابه كي يغرسها في الجسد العربي، ويبث سمومه السوداء فيه، ويمتد ذيله من المغرب ويلامس رأسه شواطئ الجزيرة العربية الجنوبية. لقد انشطر العالم العربي، بفضل ذلك، إلى مجتمعين ينتمي الأول منهما إلى المذاهب السنية والآخر شيعي تسيطر عليه قيم المذاهب الشيعية. ما يجري اليوم، وما ينتظر العرب مستقبلا هشم نوى معالم الدولة العربية الحديثة، وزرع مكانها بذور الطائفية الظلامية.

من يشاهد الواقع العربي اليوم بشيء من الموضوعية البعيدة عن الانجراف الطائفي بوسعه أن يشاهد بوضوح أنّ هناك هزيمة عربية بالمعنى الشمولي، لا يخفف من سلبياتها أي غلبة طائفية، تعيش لحظة انتصار محدودة جغرافيا هنا، وقصيرة بالمعيار الزمني للتاريخ هناك.

لتوضيح صورة هذا المستقبل المدلهم، سنفترض أنّ أحد المعسكرين المتناحرين: السني أو الشيعي، قد حقق انتصارًا ساحقًا حاسمًا على الطرف الآخر، أرغم هذا الأخير على الاعتراف بالهزيمة والخضوع لتداعياتها. سيجد هذا الطرف المنتصر نفسه يحكم مجتمعًا تتحكم فيه محصلة تلك الحروب التي خاضها ضد خصمه ممثلة في النتائج التالية:

على المستوى السياسي، وهذا هو الأهم، سيكون المجتمع منقسمًا على نفسه عموديًا إلى طرفين متناحرين، إن لم يكن بشكل علني، فعلى نحو متخفٍ يسوده النفاق، وتسيطر عليه سلوكيات المراوغة. حالة مجتمعيّة مشوّهة تولد ظواهر سياسية مرافقة تتنامى بشكل تدريجي حتى تصل إلى عاهات مستديمة تقف في وجه أية تنمية سياسية تحاول أن تنقل ذلك المجتمع من واقعه المشظى إلى الحالة المدنية المطلوبة التي تفرضها ظروف العصر ومتطلبات تطور المجتمعات البشرية المتحضرة، حتى بالمعنى الضيق لعبارة "التحضر". سيغرق الطرف المنتصر، قبل أن يستمتع بنشوة الظفر، في أوحال الصراعات الطائفية وأمراضها بدلا من الالتفات نحو برامج التنمية وخططها. وسيجد نفسه في نهاية المطاف يحكم دولة "أطلال" سياسية، بدلا من قصورها. هنا ستتحول البلدان العربية إلى قزم سياسي مشوّه غير قادر على النمو كي يشكل حالة تؤخذ في الحسبان عند وضع أية معادلة سياسية لمستقبل المنطقة.

على المستوى العسكري، سوف تنهك المؤسسة العسكرية لدولة أو دول الطرف المنتصر في حروب طائفية داخلية مستمرة لكنها غير متواصلة. بمعنى سيسجل التاريخ العربي مجموعة من الحروب المندلعة في فترات متقطعة لكنها دورية، تنهك قوى المؤسسة العسكريّة، وتبعثر جهودها في معارك محليّة، تمنعها من تطوير قواها الذاتية وتنميتها كي تصل إلى المستوى اللائق بها. ستجد المؤسسة العسكرية الرسميّة للطرف الطائفي المنتصر نفسها مضطرة إلى خوض تلك المعارك، ولا تملك القدرة على الالتفات نحو الأخطار الخارجية المحدقة بها والمتربّصة بها متحينة الفرصة الملائمة للانقضاض عليها. ستتراجع الأولويات العسكرية القومية الإستراتيجية لصالح المعارك الطائفية التكتيكية المنهكة في أنشطتها غير المجدية في نتائجها. وحينما تشتعل نيران الحروب الطائفية، وربما الحدودية، فمن الطبيعي أن تخفت الأصوات المنادية بضرورة الالتفات نحو المعارك القومية، وفي المقدمة منها مع العدو الصهيوني، التي ستكون جبهتها أكثر هدوءا مما تحلم به تل أبيب، إذ لن يكون في وسع المؤسسة العسكرية العربية حتى مجرد التفكير في العدو الصهيوني، لكونها منشغلة من أخمص قدميها حتى قمة رأسها في معاركها الطائفية الطاحنة وغير المتوقفة.

أمّا على الصعيد الاقتصادي، فستفرغ المواجهات الطائفية السياسية منها والعسكرية الخزائن العربية من أموالها، فسوف يضطر المنتصر أن ينفق الأموال الطائلة على نسج التحالفات الخاسرة، اقتناء الأسلحة والمعدات العسكريّة التي تساعده على أعدائه الداخليين. وستتضاءل مشروعات التنمية الاقتصادية أمام متطلبات المواجهات العسكرية والسياسية، التي لن يتوقف نزيفها بعد أن انقسم المجتمع العربي إلى الشطرين: السني والشيعي، وتمترست كل طائفة في خندقها الذي ستعميها رياحه الطائفية بأتربتها السوداء، وتحول بينها وبين رؤية ما هو أبعد من أنفها. وسوف يزداد الأمر سوءًا مع التراجع الحالي في أسعار النفط الذي لا يتوقع له أن يتعافى من الهبوط في أثمانه لسنوات قادمة. بطبيعة الحال، ينبغي الإشارة هنا إلى أنّ هذا النزيف المستمر للموارد الاقتصادية العربية لن ينحصر في السيولة النقدية المتحصلة من الفوائض المالية النفطية، بل سيمتد كي يشمل الموارد الأخرى طبيعية كانت تلك الموارد أم زراعية. في كلمات يصعب الحديث عن تنمية عربية اقتصادية محتملة في أجواء تسيطر عليها أصوات طبول الحرب وأهازيج المعارك. وسيتراجع الحضور العربي من على الخارطة الاقتصادية للدول المتقدمة.

يوصلنا كل ذلك نحو أخطر تداعيات ذلك الانتصار الطائفي الموهوم. إذ ستنعكس سلبيات كل تلك التداعيات على الأجيال العربية الشابة التي ستجد نفسها تتربى في أحضان طائفية بعيدة كل البعد عن القيم الدينية السمحاء أو القومية البناءة. ستولد هذه الحروب الطائفية جيلا عربيا تشحذ أسنانه سكاكين الطائفية، وتزوده بأسلحتها، وتوجهه نحو معارك داخلية مفتعلة، تنهك قواه، وتستهلك طاقاته في أنشطة عبثية، تعززها معاول الطائفية الهدامة. سيمتلك هذا الجيل مهارات المماحكات الطائفية، بدلا من نقاشات الفكر القومي، وسيتزود بأسلحة ماضية في الفتك ببعضه البعض على المستويات كافة، وفي المقدمة منها المستوى الاجتماعي.

في كلمات مختصرة ستعيد الحالة العربية سيدها المنتصر إلى عصور القبلية الغابرة، وستضعه في مرحلة دول الطوائف الماضية، وحينها ستسل تلك الدويلات الطائفية سيوفها الصدئة، وسينبري شعراؤها كي يروجوا لقصائدهم المسمومة، كي يفرضوا واقعا عربيا مخزيا، يبني لمستقبل لا يقل عنه سوءًا. وستتراجع أمام ذلك الطوفان سفن العروبة ويتقهقر قباطنتها، وتنكفئ مشروعات الإسلام السمحة، فجميعها لا تستطيع أن تعيش أو أن تنتعش في بيئة موحلة كالتي يعيش فوقها العرب اليوم.

تعليق عبر الفيس بوك