مدارات حائرة

ناصر مُحمَّد

1- أن يقول "طرابيشي" في إحدى مقالاته إنَّه ينتمي لجيل الرِّهانات الخاسرة؛ فماذا سيقول أبناء الجيل الحالي الذي يضربُ بالقيم الإنسانية عرض الحائط ويدعو لانتماءات قديمة؟ أليستْ الأزمة في هذا الجيل أخْطَر حين باتتْ القيم الإنسانية تُستخدم ذريعة لإعلان الحرب على دولة بأسرها ليُصبح المذنب والبريء سواءً أمام القذائف؟ وأين هو المثقف في عالم "الهويات القاتلة" -باستعارة هذا المفهوم من أمين معلوف- حين يُواجه الأزمة على مستوى الشعوب وليس فقط على مستوى الحكومات؟ أن تكون رماديا في عالم ملوَّن هو الانتحار بعينه.

2- كان الفجر في الماضي يُمثل رمزا لمدينة فاضلة مؤجَّلة، المدينة التي تبشِّر بالحق والعدالة والحرية والجمال، ولكن ما هو الفجر الآن؟ حين تكون هذه الشعارات سببا لتدمير دول وبنيتها الأساسية ومدنييها العزَّل؟ عندما يتساوى الغروب مع الشروق في ذلك الشفق الحزين!! تشبه هذه الحالة ما كان عليه العالم خلال الحربين العظميين بلسان الشاعر الألماني "برتولد بريخت" حين يقول: حقا إنني أعيش في زمن حالك! الكلمة الصادقة حماقة، والجبهة الناعمة توحي بالبلادة. ومن يضحك هو من لم يسمع بعد بالنبأ الفاجع. أيُّ زمن هذا، الذي يكاد يُعدُّ فيه الحديث عن الأشجار جريمة؛ لأنه يتضمَّن الصمتَ على العديد من الفظائع؟

3- في الماضي، كانتْ الحرية محدودة بتوجُّه الدولة، والمساواة في تقسيم الأرغفة بالتساوي، والعدالة في تحقيق الأهداف المرسومة، والجمال في كتابة وتصوير ورسم الكفاح والثورة. أما اليوم -وبعد سقوط الدولة الموجِّهة بعد الحرب الباردة- فإن الحرية هي بالتعدي على هويّة الآخر، والمساواة في امتلاك جميع الفرص مع الآخرين لتجاوزهم، والعدالة في تحقيق الأنانية، والجمال في الشكليات والأناقة والاستهلاك. نعم، لقد ضلَّ الإنسانُ في الإنسانِ مخالفا ما قاله أحدهم في الماضي أن مهمة الإنسان في الحياة هو أن يجد الإنسانَ في الإنسان.

4- غريبٌ أمر الإنسان، عندما يتخلَّص من صنمه الطاغية في وقت الحرب يعود إليه باشتياق في وقت السلم! انتحر هتلر وأُعدم موسوليني وشاوسيسكو وصدام حسين وحوكم سلوبودان ميلوسوفيتش، إلا أنَّ هذا لم يمنع توافد الزوار وأكاليل الزهور على أضرحتهم المقدسة! ولم يوقف تأسيس جماعات عنصرية مثل "النازيون الجدد" والتغني ببطولات هؤلاء الكبار. أترى السلم أصْبَح أفظع من الحرب؟ جميل ما قاله "بريخت": لقد تخلصنا من عناء الجبال وأمامنا عناء السهول". وربما لو كان "راسل" حيا لغيَّر عنوان مقالته "في مدح الكسل" إلى "مدح الحرب".

5- في القرن الحادي والعشرين، باتتْ حُقوق الإنسان "فتنة" هذا القرن؛ فالتذكير بحقوق الإنسان في "الشرق الأوسط" يعني اتهام صاحبها بالعمالة والتحرر والعلمنة والخيانة والتنكر للأصل، فكيف تترعرع مثلا حقوق المرأة وحرية المعتقد وإلغاء عقوبة الإعدام فيها؟ ربما لا يعلم دعاة حقوق الإنسان هناك أنَّ "الشعوب" هنا هي التي ترفض هذه الحقوق وليس فقط الحكومات! وأنَّ التأكيد على وجود هويّات ولغات وأقليات يعني اندلاع حرب أهلية! وأنَّ الصدق أفظع بكثير من الكذب!

تعليق عبر الفيس بوك