"أين هي الحياة التي ضيعناها في العيش؟"

جمال القيسي

عنوان هذه المقالة سؤال فلسفي كبير، وأنّة إنسانية عاتبة على الحياة، طرحها الشاعر الكبير ت.س. اليوت (1888- 1965). وحين نقول إنه عَتبٌ على الحياة، فذلك فقط هو حدود فهمي وشعوري لانحياز الشاعر للحياة على الدنيا؛ والذي يعني أن العيش قد يبدو عاديا جدا، وسطحيا جدا، إزاء عظمة التفيؤ في ظلال الحياة من أجل أنها الحياة.

ترى كم من سنوات أعمارنا ضاع في العيش وأبعدنا عن الحياة؟ لكن هل من الممكن أن نوائم أو نفك اشتباك سؤال: إلى أي حد يمكن أن تتوافر لنا الحياة دون الكد في العيش؟! هل نبدو رومانسيين أكثر مما ينبغي حين نعلن أن الحياة مقصدنا، ولا حاجة لنا لأي شريك معها حتى لو كان العيش؟

لكم ناقضنا المبتغى حين رضينا صعب الأيام والصبر على شظف العيش كي تتحقق لنا الحياة! وليس بعيدا عن إليوت، أرسل لي صديق، يقرأ ما أكتب، هذه القصة الطريفة العميقة يسألني عن رأيي بها، وما هو تعليقي عليها، تقول القصة التي سمعتها من قبل: ذهب سائح إلى المكسيك فامتدح الصيادين المَحليين في جودة أسماكهم ثُمَّ سألهم:

كم تحتاجون من الوقت لاصطيادها؟

فأجابه الصيادون بصوت واحد : ليس وقتا طويلا.

فسألهم: لماذا لا تقضون وقتاً أطول وتصطادون أكثر؟

فأوضح الصيّادون أن صيدهم القليل يكفي حاجتهم وحاجة عائلاتهم.

فسألهم : ولكن ماذا تفعلون في بقية أوقاتكم؟

أجابوا : ننام إلى وقت متأخر .ثم نصطاد قليلاً .نلعب مع أطفالنا ونأكل مع زوجاتنا .. وفي المَساء نزور أصدقاءنا ..نلهو ونضحك ونردد بعض الأغاني.

قال السائح مقاطعا: أنا أحمل شهادة الدكتوراة في الاقتصاد من جامعة هارفرد وبإمكاني مساعدتكم.

عليكم أن تبدأوا في الصيد لفترات طويلة كل يوم.. ومن ثم تبيعون السَّمك الإضافي بعائد أكبر

وتشترون قارب صيد أكبر.

سألوه : ثم ماذا؟

أجاب: مع القارب الكبير والنقود الإضافية تستطيعون شراء القارب الثاني والثالث؛ وهكذا حتى يصبح لديكم أسطول سفن صيد متكامل، وبدل أن تبيعوا صيدكم لوسيط، ستتفاوضون مباشرة مع التجار والمصانع، وربما أيضاً ستفتحون مكاتبكم التجارية ومصانعكم الخاصة، وسيكون بإمكانكم مغادرة هذه القرية وتنتقلون لمكسيكو العاصمة، أو لوس أنجلوس أو حتى نيويورك !ومن هناك سيكون بإمكانكم مباشرة مشاريعكم العملاقة.

سأل الصَّيادون السّائح :

كم من الوقت سنحتاج لتحقيق هذا؟

أجاب : حوالي عشرين أو ربما خمسة وعشرين سنة.

فسألوه: وماذا بعد ذلك؟

أجاب مُبتسماً: عندما تكبر تجارتكم سوف تقومون بالمضاربة في الأسهم وتتحقق لكم الملايين.

سألوه في دهشة :الملايين؟ حقاً؟ وماذا سنفعل بعد ذلك؟

أجاب مرتبكاً :بعد ذلك يمكنكم أن تتقاعدوا وتعيشوا بهدوء في قرية على الساحل، تنامون إلى وقت متأخر ..تلعبون مع أطفالكم ..وتأكلون مع زوجاتكم ..وتقضون الليالي في الاستمتاع مع الأصدقاء. ضحك الصيادون، وقالوا له: ولكن هذا بالضبط ما نفعله الآن!

انتهت القصة.

تنهض الحكمة في قصة الصيادين المكسيكيين على أن القناعة هي الحياة، والجشع هو العيش، تعني قصة الصيادين أن غَرْفَ الحياة من "كف القليل" يبعد فكرة السقوط في "قبضة الكثير"، الذي لن يقدم سوى العيش.

لربما لعبة الحياة، إن كانت لعبة، تقوم على حاضر لا يعاش، ولا يحس، كون الحاضر يصير إلى ماض في ومضة، وقبل أن يرتد إلى من يحيا الحاضر الطرف، ولربما المعنى الحقيقي للحياة يتلخص في لحظات لا تتكرر كثيرا، لكنها تظل طعم الحياة ومذاق الفرح. لكن، ورغم كل حكمتنا نجد أن أكثر الكلمات الداعية إلى القناعة تربطها بالمادة، إذ نقول: (القناعة كنز لا يفنى) وبهذا التعبير، تبدو الحكمة مختلة، وزلة تفكير لا زلة لسان، حيث يظهر أن المبتغى هو الكنز، وزيادة على الرغبة في العيش، قيل إنه لا يفنى!

فما أشد خلطنا، بين رقراق الحياة وملوحة العيش!

تعليق عبر الفيس بوك