حليم .. رحلة نغم وحنين وألم

في الذكرى 38لغياب "العندليب"

الدكتور ناصر الطائي*
* (مستشار مجلس الإدارة بدار الأوبرا السلطانية مسقط)

"موعود معايا بالعذاب موعود يا قلبي
موعود ودائماً بالجراح موعود يا قلبي
ولا بتهدا ولا بترتاح في يوم يا قلبي... ياقلبي
وعمرك ماشفت معايا فرح
كل مرة، ترجع المشوار بجرح"

تلخص أغنية "موعود" (كلمات محمد حمزة) التي غناها عبد الحليم في 1971 رحلة الألم والقدر المشؤوم المكتوب على "حليم" الإنسان والفنان والعاشق. ويلخص سيرته أيضاً الشاعر نزار قباني في "قارئة الفنجان" عندما تتنبأ الغجرية بخوف بقدر الحب المحتوم عليه، وبعمق الأحزان، وحتمية الفراق. فقدر "حليم" كان دائماً مرصودا بالفجيعة منذ البداية، فكان الطفل اليتيم والمدرس الفقير والفنان المريض والعاشق المفتون بحب من طرف واحد، مكسور الوجدان ويطارد خيط دخان. وبالرغم من ضعف حنجرته الصوتية وإمكانياتها الفنية، كان "لحليم" قلب كبير وإحساس مرهف بمعاني الكلمات التي ألهبت وأسرت قلوب الملايين من جيله، والتي تحدى بها كلاسيكية الأغنية العربية الطربية الجامدة وخلق لوناً فريداً مليئاً بالعذوبة والرومانسية والحزن والألم.

اليوم نتذكر 38 عاماً على ذكرى رحيل "العندليب" (توفي في 30 مارس 1977) الذي لا يزال مكانه شاغراً في الأغنية العربية يردد "حكاية حب" أبدي برغم الريح وبرغم الجو الماطر والإعصار الذي عصف بحياته. فقصة "حليم" هي "حدوتة مصرية" تجسد سيرة الفقر والعذاب، ولكنها أيضاً قصة تبعث الأمل والإبداع والأحاسيس الإنسانية.

لطالما كان الحب والرومانسية مرتبطين في الوعي العربي ارتباطاً وثيقاً بالحنين وحتمية الفراق؛ إنها تلك الشرارة الحتمية التي لا مفر منها التي نطلق عليها اسم القدر، والتي تفرض علينا الفراق والألم والعذاب الأبدي. إنّه القدر الذي يثير تلك الأحاسيس المتقدة داخل الإنسان، فتستدعي ذكريات مشاعر ظننا أننا لن نعيشها أو نشبعها قط؛ إنه الحنين الذي يشعل ذكريات الجمال والحب والألم. إنها رحلة الشفاء والتعافي واجتياز الطريق الممتد أمامنا والممتلئ وحشة وغربة وألماً.

ولتقديم صورة شاملة عن تأثير العندليب في عالم الأغنية، نستهل القول بأن حليم كان مصرياً وطنياً مبدعاً، ومعلماً مخلصاً، ومؤيداً لثورة جمال عبد الناصر، مما جعله قائد الأغنية الرومانسية العربية في الفترة من الخمسينيات وحتى وفاته المفجعة في عام 1977. اكتسب حليم مكانة قومية في حكومة الرئيس عبد الناصر، وأصبح صوت مصر الجديدة، أو مغني الثورة. إذا تكلمنا عن حليم الإنسان، فيكفي أن نذكر أنّه قدم الكثير، وتبرع للفقراء والمرضى، وتطوع بوقته لمساعدة المحتاجين في دور رعاية الأيتام. أما حليم الفنان، فلم ينس مطلقاً أصوله ولم يدر ظهره للآخرين، بل ساهم في تمويل بناء مستشفى، وساند كثيراً قضايا معاصرة مثل محاربة الجوع والمرض.

لقد نجح حليم في أن يصبح رائداً لمدرسة فريدة في العالم العربي، أفضّل تسميتها مدرسة الأغنية الرومانسية، وأصبح هو نفسه رمزاً للشخص الطاهر، الفقير، اليتيم، الرومانسي الحالم، الذي غنى للحب والرومانسية بالرغم من آلامه الخاصة وعلاقاته غير الناجحة. لم يكن صوته الأقوى على الساحة في ذلك العصر، لكنه استطاع بإحساسه العميق بالمعنى الشعري التعويض عما افتقر إليه من قوة ومهارة في الأسلوب.

رحلة حليم: ألم ونار وهلاك

تمثل النار ثيمة أساسية في أغاني حليم العاطفية. إنها عنصر الهلاك التام والألم والعذاب اللانهائي. في أغنية "موعود"، يشبّه حليم الحب بالنار والعذاب، أثناء "تغنيه" بالعلاقة الجديدة:

وتاني تاني تاني .. راجعين أنا وأنت تاني
للنار والعذاب من تاني
وتاني تاني تاني .. راجعين للحيرة تاني
هايمين بنجري ورا الأمانـي

وفي أغنية "حبك نار"، يواصل حليم ربط الحب بالنار التي لا يستطيع البقاء بقربها ولا الابتعاد عنها؛ وتكرار هذه الفكرة في النص الشعري دليل على استحواذها عليه وتجسيد لعنصر يوقظ العواطف ويشعل المشاعر الملتهبة، ولكنها أيضاً رمز القوة التي تهلكه وتحرقه:

حبك نـار .. بعدك نـار

قربك نار .. وأكثر من نار

نار يا حبيبي نار

حبك نار مش عايز أطفيها ولا أخليها

دقيقة تفوتني ما أحسش بيهـا

نار يا حبيبي .. نار صحتني .. نار خلتنــي

أحب الدنيا وأعيش لياليها

وفي الأغنية الدرامية "قارئة الفنجان"، تتأمل العرافة فنجان قهوة الحبيب لتقرأ له حظه ومستقبله. وتخبره أن مقدوره هو الحب. وأن هذا المقدور التعس بسبب "حرائقه" وتجاربه السابقة. نرى الحب رمزاً للعذاب؛ وقوة طبيعية تعصف بكل ما حولها برغم الريح والأمطار والاضطراب والأعاصير؛ الحب في القصيدة ليس نعمة (ماء) وليس نقمة (نار)، بل حالة من العذاب الأبدي:

مقدورك أن تبقى مسجـــوناً بيــن المـاء وبيـن النار
فبرغم جميع حرائقه .. وبرغم جميع سوابقه
وبرغـم الحزن الساكن فينا ليل نهار
وبرغم الـريح وبـرغم الجو الماطر والإعصار
الحب سيبقى يا ولدي أحلى الأقـدار

المصير المحتوم

تعتبر أغنية "في يوم" من الناحية الموسيقية أغنية فريدة من نوعها على عدة مستويات. فقد نجحت في المقام الأول في تجسيد قصة الاستسلام وتشبيه الحب بالعذاب الأبدي. يغوص النص الشعري في حالة كآبة مَرضية لا تمنحنا أي بارقة أمل. نشعر بذلك من المقدمة الموسيقية التراجيدية، حيث نسمع الأرغن وهو يحاكي صوت أجراس الكنائس، كما لو كنا في موكب جنائزي. ثم تدخل الجوقة لتردد صدى الأجراس وصولاً إلى ذروة التراجيديا، قبل سماع صوت حليم الملائكي مصحوباً بصوت رعشات درامية على الوتريات:

في يوم في شهر في سنة.. تهدى الجراح وتنام

وعمر جرحي أنا.. أطول من الأيام

تدور افتتاحية الأغنية بالكامل عن الاستسلام. يودع حليم حياة المرح والحب والأحلام لأن جرحه أصبح أبدياً، لن يبرأ بمرور الأيام.

في المقطع الثاني الذي يبدأ ب "حبيبي شايفك وأنت بعيد"، تواصل الأغنية السير في نفس الطريق التراجيدي. ويعكس النص الطابع الفجائعي للشعر العربي المرتبط بالحب المؤلم الذي يتناول المحب المجروح المشتاق وألم الفراق. يحاكي المقطع الثاني موسيقى المقطع الافتتاحي، لتؤكد الأغنية على معاني الشفقة، والجمود، والاستسلام ببطء وألم، وتجسيد الشعور بالعجز التام عن المضي قدماً. ومرة أخرى نسمع أجراس الكنائس الجنائزية التي ميزت المقدمة لتنتهي الأغنية نهاية مأساوية. ولهذا أصبح حليم بين أبناء جيله رمز الشخص الرومانسي الحالم البائس والعاشق المفتون بقدر الموت.

إنّه حب مهلك ومدمر؛ حب كالنار التي تحرق كل ما حولها. حب حليم حب مستحيل، بعيد المنال، يحرق المحب، ويملؤه شوقاً أبدياً ورغبة في المعشوقة.

القدر في أغنية "قارئة الفنجان"

تشتهر أغنية "قارئة الفنجان" بأنها واحدة من أفضل أعمال حليم، وهي من أشعار نزار قباني وتلحين محمد الموجي. قصيدة نزار قباني تتسم بالرقي والرومانسية. وكغيرها من قصائد الحب العديدة، تدور الأغنية حول مصير العاشق المحتوم، إلا أنّ هذه القصيدة يغلفها الغموض وتختلف عن غيرها لأن العرافة هي التي ترويها بعد أن جلست "والخوف بعينيها" تتأمل فنجان حليم. تخبره أن قدره أن يقع في الحب وأنها لم تر حزناً مثل حزنه. قدره مرتبط بقدر امرأة تتمتع بجمال لا يقاوم وشعر غجري طويل يسافر في كل الدنيا. حبيبته نائمة في قصر مرصود ومن يقترب منها سيلقى حتفه. إنه واقع في حب امرأة ليس لها عنوان ولا وطن؛ إنها محبوبة لا تنتمي إلى هذا العالم الذي لا يناسبها.

وتأتي موسيقى الموجي مكملة على نفس مستوى غموض النص، زاخرة بالأصوات المركّبة التي تجمع الأرغن والأكورديون وتحاكي صرخات الكائنات الخرافية لإضفاء أجواء الظلام والأشباح والمصير المشؤوم.

تلخص المقدمة الطويلة التي تمتد 11:30 دقيقة الأغنية كلها من خلال مقاطعها المتعددة. تبدأ الفرقة بمارش متردد طويل أثناء اقتراب العاشق من مسكن العرافة، وهو أيضاً مشغول بالقدر والمصير. ثم يليه المقطع السيمفوني التالي من حظ الوتريات التي تعزف ثيمة قوية نشطة تمنح بارقة أمل ممزوجة باشتياق. ويؤكد صوت الناي المنفرد هذه الراحة المؤقتة بحنان ورقة. ثم يحمل لنا المقطع الثالث المزيد من الصرخات والصيحات الفضائية الغريبة الصادرة عن الأكورديون والتي تثير في مخيلتنا صور مكانس الساحرات وعظام الحيوانات والأجراس المشئومة. وأخيراً يعود بنا المقطع الرابع إلى صوت الناي ويركز على ثيمة معينة في الأغنية مستوحاة من مقطع "بحياتك يا ولدي امرأة" يعزفها الناي الذي يبدأ في التغني بجمال حبيبته. الآن تصل أصوات الصرخات إلى ذروتها، لتتويج نهاية الرحلة وإعلان وصول العاشق إلى مسكن العرافة المظلم، واستعدادها لإخبار حليم عن مصير العاشق الشهيد.

إن قصة "قارئة الفنجان" هي قصة حليم نفسه المسكون بداء الحب والسائر نحو نهايته. وكما هو الحال في جميع أغانيه، ينبع أداء حليم القوي من إدراكه الشديد لمعاني الأغنية ومعايشته لقصة حب فاشلة ومصيره المأساوي، أو كما وصفه نزار بأنه "شهيد الحب".

*****

ذكرى فراق وألم

في ذكرى وفاة العندليب، تلوح أمامنا ذكرياته وميراثه الفني وأغانيه الخالدة. من خلال التعاون مع المؤلفين المجددين، أصبح رائداً في تطوير الأغنية العاطفية التي اتخذت مساراً معاكساً لأغاني الجيل الأقدم (أم كلثوم وعبد الوهاب). أغانيه العاطفية، مثل "أنا لك على طول" و"أهواك"، و"سواح"، و"نار"، و"رسالة من تحت الماء"، و"موعود"، و"في يوم في شهر في سنة"، و"قارئة الفنجان"، تجسيد الرومانسية والحنين والحب. وغالباً ما كان النص الشعري يدور حول الفراق والألم وعذاب المحب، حيث يبدأ الحب كنشوة وينتهي نهاية مأساوية. وهناك استعارة عربية قديمة تشبّه الحب بالمرض العضال، مثل المتصوف الذي يقاسي كل أشكال العذاب خلال بحثه اللانهائي عن خالقه.

اليوم نتذكر فراق حليم الإنسان والفنان... نتذكر الألم والخجل الذان سكنا روحه البريئة... نتذكر عاطفته الحالمة والتي جعلت من صدمات الحياة أكثر فجائعية ومأساوية... نتذكر العيون الدامعة والأيدي الناعمة والقلب الكبير... نتذكر الجرح الأبدي والصوت المليء بالدفء والاحساس والمشاعر

مات حليم وحيداً في لندن، ولكنه سيظل خالداً في ذكرياتنا وقلوبنا وأرواحنا أبد الدهر. مثل الطيور المهاجرة في موسم الربيع، تعزينا أغانيه كل ربيع مع تفتح البراعم الجديدة ومعانقة الأحبة التماساً للدفء تحت ضوء القمر، مستلهمين الطاقة المتجددة والأمل لخوض حياة رائعة رغم ألمها. لطالما كان حليم أكبر من العالم، وظل باستمرار يحاول التأقلم مع قوانينه المؤلمة القاسية التي لم يفهمها قط.

اليوم، أتفهم تماماً معنى أغانيه وأقدّر تجديده ومنهجه العصري في الموسيقى، والتزامه تجاه فنه. اليوم، أحدق في جسده النحيل الذي أنهكه المرض ومسكنات الألم؛ اليوم، أتذكر علاقة حبه الفاشلة وأتساءل: تُرى ما الذي حدث؟ كيف يتعرض الحب، أنبل المشاعر، الذي يقهر أي شيء، للهزيمة؟ لن أعرف الإجابة أبداً...

اليوم، أودع حليم كما أفعل كل يوم وكل شهر وكل سنة. ولكن ألم فراقه أكبر هذه المرة، تزيده معرفتي الشديدة بالأثر الذي تركه على جيلي، بينما أحتفي برومانسيته في عيون كل المحبين من حولي.

بعد 38 عاما من الفراق والألم، ندرك كل يوم مدى حجم الفراغ الذي تركه حليم على الساحتين الفنية والإنسانية والذي سيظل شاغراً مدى العمر.

اليوم أعود إلى التراب لأرسم خارطة الغياب "لحليم" الحب والألم. اليوم فُتح للواقعِ باب الفجيعة وحتمية الفراق...فـ "حليم" ستظل مهدي ولحدي الأبدي....وستظل أنت السُكنى والهيام....وأنت الحياة وأنت الممات.

تعليق عبر الفيس بوك