مريم العدوي
بكل تأكيد سبق لك وأن اصطدمت بواحدِ من أولئك الذين لا يؤمنون بقاعدة "الاختلاف لا يفسد للودّ قضية"، ذلك الصنف من الناس الذي لا يرضى لرأيه بديلا؛ فتجده يتعنت في النقاش ويحتد ما إن يطرح أحدهم رأياً مخالفاً لرأيه، تأخذه العزة بالإثم غافلاً عن قوله تعالى: (وفوق كل ذي علمِ عليم)، سورة يوسف، الآية 76.
إنّ مبدأ تقبل الآخر لا غنى عنه وهو أساس متين لقيام الحضارات، بينما رفض الآخر وما يجرّه من عزلة عن التفكير في الزوايا الأخرى جرّ يوماً بعض الأمم إلى غياهب الجهل والتخلف.
وقبل التطرق إلى أهمية مبدأ (قبول الآخر) أيا كان رأيه علينا العروج أولاً إلى مفهوم الآخر؟ فمن هو الآخر بداية؟
الآخر هو: كل ما يختلف عنّا، أو نختلف عنه أو لا يشبهنا سواء من حيث اللون أو الجنس أو العادات والتقاليد والقيم والفكر والتوجّه السياسي والديني، فالآخر بمفهومه العام هو كل ما ليس أنا أو ما ليس نحن.
وتقبل الآخر نقصد به احترام الآخر وتقدير وتفهم ما لديه من آراء ومفاهيم مرتبطة بتكوينه الثقافي ككل. ويبدأ تقبل الآخر بتقبل الذات لما لمفهوم التقبل من نواح نفسيّة واجتماعية وثقافية، حيثُ أن تقبل الذات بكل ما فيها من قوة وضعف والبعد عن جلد الذات والثقة بالنفس تخلق لدى المرء رحابة ومرونة تجعله يرحب برأي الآخر مهما كان فيه من اختلاف عنه أو غرابة. بينما ما نراه في بعض المناظرات أو النقاشات من رفض للآخر لشخصه أو لرأيه المخالف ومن ثمّ رفع الصوت والنقاش البعيد عن الجدية والموضوعية الذي يذهب بعيداً في تشويه صورة الآخر أو النيل من شخصه والنظر إلى القائل لا القول فإنّه دليل كبير على ضعف حجّة الأول وانعدام الثقة بالنفس.
فكل رأي صواب يحتمل الخطأ وفي ذات الوقت قد يكون كل رأي خطأ ولكنّه يحتمل الصواب من جهة أخرى. وحسب رأي د. إبراهيم الفقي: (الرجل الذي لا رأي له كمقبض الباب يستطيع أن يديره كل من شاء، ثق بنفسك واجعل لنفسك رأيا خاصًا وتقبل باحترام آراء الآخرين).
وهناك فهم خاطئ من زاوية أخرى لمفهوم تقبل الآخر، فالتقبل لا يعني البته الانصهار والذوبان في الآخر، فليس القصد من التقبل فقد ما لدى الأول من انتماء وتقدير لذات وإنما تكوين رأي أقوى من خلال غربلت الرأيين معاً، وفي ذلك قال جورج برنارد شو: (لو كان لديك تفاحة ولدي تفاحة مثلها وتبادلناهما فيما بيننا سيبقى لدى كل واحد منا تفاحة واحدة فقط. لكن لو كان لديك فكرة ولدي فكرة وتبادلنا هذه الأفكار فعندها كل منا سيكون لديه فكرتين). ومن زاوية أخرى فإنه من غير المنطقي ترك المرء لرأيه والانجراف مع رأي الآخر إلى المجهول بدون تفكير.
أن تقبل الآخر هو عملية تربوية بالدرجة الأولى تبدأ من البيت ولا تنتهي عند عتبات المدرسة بل تنطلق إلى مدى واسع في حياة المرء والشعوب، حيثُ أن تقبل الآخر يخلق لدى الإنسان سلاما داخليا ينشره حوله وما أحوجنا في هذه الأيام إلى ذلك، فتعنت الأشخاص بآرائهم ومن ثم الحكومات بمصالحها جرت على شعوب بأسرها هلاكا لا سبيل إلى الخلاص منه والواقع خير شاهد عيان.
فعندما نغرس في نفوس أبنائنا حباً للآخر من أجل إنسانه واحتراماً ينبع من احترامنا لذواتنا مهما كان مختلفاً عنا، وعدم اتخاذ المختلف عدواً وشن الحرب عليه؛ فكما قال المهاتما غاندي يوماً: (الاختلاف في الرأي ينبغي أن لا يؤدي إلى العداء، وإلا لكنت أنا وزوجتي من ألد الأعداء)، وتقبل الآخر من شأنه أن يجعل بيننا وبين النزعة الشوفينية وهلم جرا من تلك المصائب التي تحجب عنا نور السلام جدارا منيعاً.
إن قبول الآخر وعدم إقصائه بأي شكل كان والتعايش معه في حدود حفظ مصالح الطرفين مهم جداً. وخير مثال على ذلك معاهدات الصلح التي حفظها الرسول - صلّى الله عليه وسلم- بين المؤمنين والكفار، والتي حقنت دماء كثيرة ودلت دلالة ساطعة كالشمس في كبد السماء على أن الإسلام متين من الداخل وقوي العرى لذا تقبل الآخر وحاوره بل وذهب إلى أبعد من ذلك فعاش إلى جواره في إطار العهد والوثائق.