حصة تأهيليّة في معهد التنمية السياسية

عبيدلي العبيدلي

في نطاق علاقة تربطني مع معهد التنمية السياسية البحريني، اتيحت لي فرصة الالتقاء بفريق من أربعة أعضاء من الشباب البحريني؛ أوكل لهم المعهد مهمة ذات علاقة بجائزة "المنتدى الخليجي للإعلام السياسي"، وهي الجائزة التي أعلن عنها الرئيس التنفيذي للمعهد ياسر العلوي في الدورة الثانية للمنتدى، وكان موضوعها "ثقافة الاختلاف"..

دون الحاجة للخوض في طبيعة تلك المهمة وتفاصيلها، فما يفوق ذلك أهميّة هي الحصيلة التي يخرج بها كهل في مثل عمري من مجموعة في عمر الزهور هم أعضاء فريق المهمة، والتي شكلت في مجملها ما يشبه الحصة التأهيلية التي يفتقدها الكثير من الجيل الذي أنتمي إليه. أكثر من ذلك، نجح هذا اللقاء السريع، في إعادة رسم الصورة الخاطئة، بشكل سليم، التي يحملها الكثير منّا عن الدور الذي يمارسه المعهد في تنمية البحرين سياسيًا. ويمكن تلخيص نتائج تلك الحصة التأهيلية في النقاط الرئيسة التالية:

1-إزالة وهم ابتعاد هذا الجيل البحريني عن التصرف الجاد في أداء المهام، ومن بينها المهمة التي أوكلها له المعهد، واتهامه بسيطرة السلوك الباحث عن نتائج سريعة يستقيها من قراءات سطحية توفرها له كنوز المواد المتاحة على الشبكة العنكبوتية العالمية (الويب). فقد عكست مادة البحث التي جمعها أفراد الفريق، كل منهم بشكل مستقل، جهدًا مضنيًا، بغض النظر عن النتائج المستخلصة من تلك المادة، الأمر الذي يؤكد توفر خامة بشريّة بحرينية شابة بحاجة إلى الرعاية إذا ما أريد لهذا الجيل من الشباب أن يشكل الرأسمال الحقيقي المثمر في أي اقتصاد معرفي ندعي أننا نشيد بناه التحتية الراسخة التي يحتاجها. فمن المسلمات الرئيسة في متطلبات تأسيس ذلك النمط من الاقتصاد رعاية الدولة لمواردها البشرية وتأهيلها، كي تكون قادرة ليس على مجرد اكتساب المعارف واستخدامها فحسب؛ وإنما أيضًا على "إنتاج المعرفة ونشرها واستخدامها" على نحو مبدع وخلاق، حيث تتحول المعرفة كما تقول معظم الدراسات إلى "المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي". فخلافا لما يعتقده الكثيرون منّا "لا يدور الاقتصاد المعرفي بالضرورة حول التقنية أو تقنية المعلومات. فكل ما يرتبط بتطبيق المعرفة ودورها في زيادة أو تحسين الإنتاج يمكن أن يندرج ضمن ذلك الاقتصاد".

2 - نفي القبول بسيطرة التعصّب الطائفي على الروابط التي تحكم العلاقات بين أفراد هذا الجيل الشاب، فقد عمل أفراد الفريق، دون أن يفقد أيا منهم الاستقلاليّة والتفرّد اللتين تقتضيهما شروط البحث العلمي، بروح جماعية متكاملة، ذوّبت التوجهات الطائفيّة التي باتت تسيطر على سلوك نسبة لا يستهان بها في المجتمع العربي، ومن ضمنها المجتمع البحريني، وأضاعت، بفضل ذلك السلوك، الفرصة من بين أيدي من يُصرّون على الاستفادة من تحريك المياه العكرة. وبالتالي فقد نجح الشباب، حتى ولو بشيء من العفوية، رؤية ذلك الضوء، حتى وإن بدا خافتا، الذي ينتظرنا في آخر النفق المظلم الذي لا نملك إلا أن نسلك طريقه.

3- إزاحة مقولة لا يكف الكثيرون عن اجترارها؛ وهي عجز معهد التنمية السياسية عن ممارسة دوره التنموي المنوط به، فها هو يفرد جناحيه في دائرة واسعة تعالج موضوعات توهم البعض أنّها من المحرمات، ويصل إلى القطاعات الشابة الواعدة من المجتمع، فشلت القوى السياسية العاملة في الساحة البحرينية من الوصول لها بالطرق السليمة التي يسلكها المعهد، وعبر أدوات بناء مثمرة، لم تعد تلك القوى قادرة على استخدامها. هنا يجسد المعهد بأن هناك العديد من القنوات غير التقليدية؛ ومتى ما جرت الاستعانة بها فيمكنها أن تحقق التنمية السياسية الراسخة التي تمارس دورها في تشييد الساحة السياسية المعافاة التي باتت البحرين في أمس الحاجة إليها.

إثر وصول هذه الحصّة التأهيلية إلى نهايتها حملت نفسي وطلبت موعدًا مع د. ياسر العلوي، حاملا بين يدي ملف يحمل بين دفيته تلك النتائج المدرجة أعلاه، كي يفاجئني، بمقاطعة لحديثي، على نحو غير مسبوق منه، مستعيرًا الشطر الثاني من قصيدة للشاعر العربي أبو نواس، "حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء"، وهي القصيدة المعروفة التي يستهلها أبو نواس قائلا:

دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء

وداوني بالتي كانت هي الداء

فقل لمن يدعي في العلم فلسفة

حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء

وكان قصد أبو نواس حينها، كما تقول شروحات الشعر العربي، موجهًا كلامه إلى لائم "بأنّ المعرفة دائمًا ناقصة وكل شخص مهما بلغت معرفته لا بد وأن يجهل أشياء كثيرة. وأنت يا من اتخذت العلم هدفًا لحياتك ظانًا منك أنّك بعلمك الواسع عرفت كل شيء في الحياة لكنّك لم تفعل".

وبالفعل، وعندما أنهى العلوي حديثه، اكتشف أنّني كنت أتوهم أنني على معرفة الكثير عن المعهد، لكن في حقيقة الأمر "غابت عن ناظري الكثير من أشياء" ما تزال تقف عقبة كأداء في وجه المعهد الذي لا يكف عن طرق الأبواب بغض النظر عن قوة الأقفال التي توصدها من أجل أداء دوره التنموي، بشكل صحيح.

لكن ذلك لم ينف أنني ما زلت مصرًا على أنّ اللقاء القصير الذي جمعني بتلك الوجوه البحرينية الشابة، كان بمثابة جلسة تأهيليّة كنت في أمس الحاجة لها، كي أنفض غبارًا تراكم فوق ذهني الكهل، وأزيل طبقة صدئة تغلفه، وتحجب عني رؤية الكثير من التحولات التي يشهدها المجتمع البحريني، ونُصرّ بوعي أو بدون وعي على تجاهلها أو عدم الاعتراف بها، وما هو أسوا من ذلك على محاربتها.

تعليق عبر الفيس بوك