المعتصم البوسعيدي
"...والأرض تخنقُ صوت أقدامي، فيصرخ جرحها تحت الرمال، وجدائل الأحلام تزحف، خلف موج الليل، بحار تصارعه الجبال، والشوق لؤلؤة تعانق صمت أيامي، ويسقط ضؤوها خلف الظلال..." وهكذا ـ أيضًا ـ سقطت قناديل سامي السعيدي وهو يجري مسافرًا يحمل على كتفيه أحلام وطن، سقطت وهو في موانئ العائدين وعينه تفتش عن فرحة تزيحُ عن جسد رياضتنا وصمة الوهن، لكنه بعد أن نجح وحيدًا، عاد ليجد: (جئتُ وحدي لمكان التلاقي، يا إلهي ليتني ما أتيتُ، فتأملتُ في المكان مليئًا، أين عيناك كي ترى ما رأيتُ) فخنقته العبرات، وحاصرته الحسرات، وخرجت كلماته عبر المذياع في مشهد قديم أو جديد ـ سيان ـ تتبعثر فيه علامات التعجب، أين نحن من سامي السعيدي وأمثاله؟!
التزمتُ مع نفسي أن أُقدم سيرة أبطال الرياضة بين فترة وأخرى، وكنت خلال بحثي أجد معانٍ نبيلة ومدرسة حياة، ولأن هناك جدلية معروفة عنوانها "هل يولد البطل أم يُصنع" فإنّ إسقاط ذلك على واقعنا يُعدُ إجحافًا لواقع آخر في ضفاف أخرى توصف بالمثالية، وربما إجحافًا أكبر في تنظير المسألة وشرح سيرورتها، لكن سامي ابن الاثنين وعشرين ربيعًا والحاصل على جائزة الرؤية لمبادرات الشباب عن الجانب الرياضي في العام 2014م، والأول في سباق الفجيرة للقدرة والتحمل في ذات العام والثاني في سباق ماراثون مسقط الذي أقيم في شهر يناير الماضي، وصاحب المركز الأول ـ مؤخرًا ـ في سباق ماراثون "أوربان الترا" بإمارة رأس الخيمة بدولة الإمارات العربية المتحدة وسط مشاركة أكثر من سبعين عداءً يمثلون أكثر من عشرين دولة، لم يجد ما يشفع لإنجازاته ولم يحصل على رضا "أُولي النُهى" في رياضتنا وهو الذي سعى لطرق أبواب "الحق المكتسب" لا "المنة" فوقع ـ على ما يبدو ـ في قعر غار مهجور لا يسمع فيه إجابة إلا صداه، ثم إنّه مضى وعاد فحسب أن يجد "أفاعي" الاستثمار العظيم "للموهبة" وما وجد ـ حتى الآن على أقل تقدير ـ إلا "حبال" تلقفتها "عصا" الإهمال واللا مسؤولية.
قصة سامي السعيدي ليست سوى "مثال ليس للحصر" تبعث من جديد أهمية التخطيط الجيد لتبني المواهب وبناء الأبطال، وتصريحاته التي قد يراها البعض "خروجًا عن النص" ما هي إلا نية طيبة صادقة في عمقها تسبرُ أغوار ضرورة أن يُصقل الرياضي فكريًا قبل كل شيء، وكم كنت أتمنى أن ينظر إلى تصريحاته من الزاوية الإيجابية عند "البعض" ممن حملها "فوق ما تحتمل".
الأصل في جدلية "البطل يولد أم يصنع" أن كلاهما صحيح فالموهبة وإن ولدت وراثيًا أم فطريًا فإنها لن تنجح دون صناعة وصقل وخطط علمية مدروسة، فمستكشفو المواهب ينتقون ويستقرئون الموهبة ومدى تقبلها للتطور على المدى البعيد، ويستوعبون خطط تنميتها التي تقوم على أسس المهارة والمستوى البدني والصحي والنفسي، على أن مسؤولية صناعة البطل أصبحت تُرسم على مستوى وطني والأمثلة كثيرة عالميًا وعربيًا كالمغربي هشام القروج والمصري كرم جابر وغيرهما من الأبطال، مع أن البعض يرى أن صناعة البطل عربيًا هي نتاج حالات فردية لا أكثر، ولكن يبقى البطل ثروة حقيقية يمكن من خلاله نشر ثقافة بلد وبناء جسور تواصل، كما يعد تسويقًا مثاليا لقيم عُليا، ولسياحة اقتصادية تختصر مسافات كثيرة من الجهد والمال والعمل.
بالعودة لسامي السعيدي يتضح جليًا أننا نعيش في "أزمة"، فنحن لا نرى استكشافًا حقيقيًا للمواهب ثم إننا لا نتبناها تبنيًا يعزز ديمومتها ففي الأولى يتضح أننا لا نملك رؤية واضحة وإستراتيجية مُعلنة في هذا الصدد، أما في الثانية فلا تتوفر معها بيئة سليمة وأدوات لازمة لصناعة البطل مع غياب "السقف الأعلى" للغاية والذي يفترض أن يكون مداه (أولمبيًا) حتى يكون العمل على القدر الكبير والصارم ذي التدريب العالي الدقيق، ولا شك أن وجود الإلهام الداخلي مع التحفيز الخارجي سيشكل "حجر الزاوية" للنجاح، وقد سمعنا ورأينا كيف أن سامي هو مستكشف نفسه ومدرب ذاته ومع ذلك حقق ما كان يفترض أن يجعل الجهات المعنية تحتضنه وتؤسس عليه مشروع بطل، مع العلم أن صناعة البطل ليست توفير مدرب ومعسكرات فقط؛ بل هي "حياة" تمر بعدة مراحل من الاستكشاف في سن مبكر وإن كان ليس بالضرورة، ثم رعايتها وتدريبها وصقلها وتحديد مسارها وصولاً لمرحلة قطف الثمار وإدامة ذلك من خلال إيجاد روح التحدي والتعامل مع المتغيرات والظروف التي تحيط بالبطل.
وفي ظل ظهور أمثلة كالسعيدي وغيره من المواهب التي قد لا تصل في يوم لأحلامها أو لأحلام أبناء هذا الوطن المتعطشين لتحقيق الإنجازات، يبقى الأمر مرهونًا بعمل ليس سهلاً البتة وليس مستحيلاً كذلك، وأعتقد إنه بات من الضرورة بمكان أن يُزرع كشافين في كل أرجاء السلطنة وبمعايير الكشافين ذوي الكفاءات العالية والنظرة المتفحصة خاصة على مستوى المدارس والأندية و"القرى" واستهداف النشء إذا ما علمنا أن بعض الرياضات يجب اكتشاف مواهبها في سن مبكرة كالسباحة مثلاً، ثم إن بعد اختيار الرياضي من كل النواحي ينبغي أن يكون هناك مسيرون يحددون مسار البطل "سوسيولوجيا" حيث يُدرس البطل من الناحية الإنسانية ويحدد قوانينه التي تحكم تطوره وتغيره، فكم من رياضي كان يمارس رياضات مختلفة في بداياته أو مستويات معينة في رياضة ما يحوله الـمُسير إلى بطل في اتجاه آخر فـ"سعيد عويطة" كان لاعب كرة قدم قبل أن يكتشف أستاذ الرياضة بمدرسته أن مساره كبطل يكمنُ في مضامير ألعاب القوى، وعلى عموم الأشياء الهاربة منّا نتمنى من المعنيين بالمواهب الرياضية وصناعة الأبطال أن يضعوا "كيًا" لجرح دائم الألم.