عامٌ فاصلٌ في حياة الأمة

زاهر بن حارث المحروقي

في مثل هذه الأيام من عام 2003، انطلقت الضربات الأمريكية الأولى لاحتلال العراق وتدميره؛ وسيبقى ذلك العام عاماً فاصلاً في تاريخ الأمة العربية، وذلك لأنه كان له ما بعده؛ فكلّ ما حصل في الوطن العربي من أحداث، إنّما هو من تداعيات سقوط بغداد واحتلالها رسمياً من قبل أمريكا؛ ابتداءً من الفتن المذهبية، وانهيار الجيوش العربية، وضعف الحكومات، إلى نشوء حركات وتنظيمات مشبوهة وغير ذلك كثير، ولم يكن ذلك السقوط والاحتلال ليحدثا لولا موافقة عربية رسمية وتآمر عربي واضح، وذلك لتحقيق المصلحة الإسرائيلية في المنطقة.

ولكن المثير في الأمر أنّ الدول العربية التي ساهمت مساهمة أساسية في تدمير العراق على حساب المشروع الصهيوني، هي التي تتباكى الآن على أنّ إيران تستولي على العراق، وليس أدل على ذلك ممّا نشرته صحيفة "ديلي تلغراف" البريطانية في عددها 6/3/2015، تحت عنوان "السعودية تحذّر أوباما من أنّ إيران تستولي على العراق"، حيث قال "ريتشارد سبنسر"، محرر شؤون الشرق الأوسط في الصحيفة، إنّ الأمير سعود الفيصل قال لنظيره الأمريكي جون كيري "إنّ أمريكا تجازف بترك إيران تستولي على العراق، وإنّ تكريت مثالٌ على ما يقلقنا"، وتفصيلُ ما يحدث في تكريت، هو أنّ القوات العراقية تقاتل حالياً تنظيم "داعش" هناك، ولكن - حسب سبنسر- "فإنّ ميليشيات شيعية مقربة من إيران تقاتل إلى جانب القوات النظامية العراقية، على الرغم من أنّ أغلبية سكان تكريت من السُّنة".

إنّ السعودية بالذات قد لعبت الدور الأساسي في تسليم العراق في طبق من ذهب لإيران، وهي تقوم بالدور نفسه الآن في سوريا، ولا يمكن أن يُعتدّ على بعض الكلام الذي يقال أحياناً هنا وهناك، من أنّ إيران لعبت دوراً في الاحتلال الأمريكي؛ لأنني أشبِّه هذا الكلام، بشخص قابله أحد الأشخاص في الشارع، وقام بطعنه بالسكين عدة طعنات في جسمه وأمام الملأ، ولكنّ الناس لم يتكلموا عن هذا الذي قام بالاعتداء علناً؛ بل نسوه وتحدثوا عن أنّ أحدهم كان مختبئاً خلف الشجرة يتابع ما يحدث من بعيد، وعندما تمّت عملية الاعتداء، خرج من وراء الشجرة واستفاد من الموقف؛ فهذا هو الحاصل تماماً في المسألة العراقية، وهذا ما سيحدث في سوريا وفي اليمن وفي أيّ مكان، ثم سيظهر من يطلب من أمريكا أن تخلّصنا من "العدو الوهمي" الذي كان واقفاً خلف الشجرة والذي استفاد من الموقف، فالسياساتُ لا تبنى عن المزاجية أو على ردود الفعل، بل هل تبحث عن المصالح الثابتة، وهذا ما فعلته إيران وما تفعله في أيّ مكان، وسيبقى السؤال هو لماذا لا تفعل السعودية مثل ذلك..؟ بل لماذا لا تفعل مصر كذلك.. ولماذا لا يفعل العرب كلهم ذلك..؟

إنّ التاريخ هو سلسلة متواصلة من الأحداث تربطها حلقات متصلة؛ فلا يمكن أن نفصل حلقة عن الأخرى، أو أن نحكم على حلقة بمعزل عن الحلقة السابقة؛ ومن هنا فإنّ القول بأنّ كلّ ما حدث للوطن العربي هو من نتائج الغزو الأمريكي للعراق بمساعدة عربية واضحة وبتآمر عربي واضح؛ هو قولٌ صحيحٌ ولا يحتاج إلى أيَّ توضيحات؛ فالواقع على الأرض قد أثبت صحة ذلك، وفي رأيي - ولا ألزم به أحداً- أنّ الاعتقاد بأنّ المشكلة هي صدام أو بشار فهو رأيٌ خاطئ، فالذي حصل في العراق لم يكن فقط قتل شخص اسمه صدام، وما يحصل في سوريا ليس استهدافاً لشخص اسمه بشار؛ وإنّما الذي حصل في العراق هو تدمير الجيش العراقي، وكذلك ما يحدث في سوريا هو استهدافٌ للدولة السورية، ودعك من النكتة التي تقول إنّ الدول التي تقف ضد سوريا إنّما تبحث عن حياة كريمة للسوريين؛ ففي النهاية فإنّ ما يحدث هو لمصلحة إسرائيل أولاً وآخراً، ومن يقول غير ذلك فهو واهم (وليس معنى هذا الكلام أني مؤيد لصدام أو لبشار بالضرورة؛ وهو توضيحٌ لا بدّ منه؛ لأني كثيراً ما أواجَه خطأ ممن يقرأ جزءًا من المقال ويترك الفكرة العامة؛ لذا وجب التنويه -وللأسف أنّ التنويه أصبح لازماً في أغلب المقالات الآن-).

في رواية "العملية هيبرون" لضابط المخابرات الأمريكي "إريك جوردان"، ترد عبارة مهمة.. إذ يجتمع رئيس الوزراء الإسرائيلي مع أربعة من كبار المسؤولين الإسرائيليين، منهم رئيس جهاز الموساد؛ وذلك في مزرعة في حيفا.. والهدفُ هو انتخاب سيناتور جمهوري أمريكي عميل لإسرائيل رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية؛ وهو يتلقى راتباً شهرياً منتظماً من الموساد منذ عشرين عاماً، مقابل معلومات استخباراتية واختراقات للموساد.

في هذا الاجتماع؛ يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي لأعضاء اللجنة: "إنّ قرارنا بترشيح هذا الرئيس سوف يؤثر على أمن أطفالكم وأحفادكم والأجيال القادمة من اليهود؛ وإذا نجحت العملية "هيبرون"؛ فإنّنا سوف نغيِّر من قدراتنا على السيطرة على السياسة الأمريكية لعقد من الزمان.. وخلال هذا العقد سوف نعد لترتيبات ومعاهدات متبادلة سوف تستمر لجيل إسرائيلي آخر..".

ويقول رئيس الوزراء الإسرائيلي لمجتمعيه، - حسب الرواية التي صدرت قبل عام 2003: "في المرة القادمة عندما يرفع ديكتاتور العراق أو أيّ أحد آخر رأسه القبيح سوف نُزيل هذا الوجه من على الخريطة؛ أو بالأحرى سوف نحمَل رئيس الولايات المتحدة على بتره لحسابنا.. إنّنا في إسرائيل نريد رئيساً أمريكياً يأتمر بأمرنا وينفِّذ كلَّ ما نصدره له من أوامر".

و"إريك جوردان" أحد الذين عملوا لسنوات طويلة في أجهزة المخابرات الأمريكية؛ وقضى أكثر من نصف عمره في الشرق الأوسط؛ فعرف خبايا السياسة وصناعة القرار في المنطقة؛ وعمل مستشاراً للرئيس الأمريكي "ريجان" فيما يخص العمليات الإرهابيّة.. والقارئ يستطيع أن يكتشف الحقيقة من الخيال من خلال ربط أحداث الرواية مع الواقع.

والسؤال المطروح الآن وبقوة هو: ماذا حققت الولايات المتحدة من احتلالها للعراق..؟ إنّ الاجابة على هذا السؤال هي أنّ أمريكا حققت انتصاراً استراتيجياً واحداً؛ وهو ما أشار إليه "جوردان" في روايته تلك؛ وهو أنّ رئيس الولايات المتحدة أزاح العراق من الخريطة ودمّر القوّة العراقية على حساب إسرائيل؛ فلم يعد خافياً أنّ الديمقراطية الجديدة التي أتت بها أمريكا إلى العراق تمهيد لشرق أوسط جديد أكذوبة كبرى.. وميدانياً فإنّ نتيجة الاحتلال والغزو هي تقسيم العراق إلى كيانات عرقية وإثنية ومذهبية، وهو ما حصل فيما بعد في كلٍّ من ليبيا وسوريا واليمن والصومال، والدورُ قادم على الكل لأنه لا طاقة لإسرائيل أن تدخل في حروب عسكرية مكلفة، فلا بد من تشتيت العرب بأيدٍ عربية وشعارات مصوغة في تل أبيب.

وقد نسبت الصحافة الأمريكية إلى "هنري كسينجر" وزير الخارجية الأمريكية السابق ومستشار للأمن القومي أنّه قال: إنّ الطريق إلى القدس يمر عبر بغداد؛ أي أنّ بال إسرائيل لن يهدأ ولن تستقر في مدينة القدس التي يعتبرها الحلمُ الصهيوني عاصمةً لـ "أرض الميعاد"؛ إلا اذا انكسرت بغداد بما تمثله من رمز وقوة للعرب، وهذا ما حصل؛ وحسب الكاتب "فهمي هويدي"، فإنّ الدافع إلى ذلك هو اقتناع "كسينجر" ومن لفّ لفّه، بأنّ القوة العراقية كانت تؤرق إسرائيل، خصوصاً بما استصحبها من تطلعات نووية، أو التمكن من الأسلحة غير التقليدية الأخرى.. فيما رأى الكاتب "باتريك سيل" أنّ موقع العراق كمهدد استراتيجي لإسرائيل استقر وأصبح أمراً مسلماً به منذ جرؤت القيادة العراقية وهاجمت إسرائيل عام 1991، لذا - والرأي لباتريك سيل- أصبح أحد الأهداف الرئيسية للسياسة الإسرائيلية ولمؤيديها ورجالها في واشنطن أن يُضرب العراق، بحيث يجري إضعافه الى الأبد، وأن يُنزع سلاحه. بحيث يتم تغيير الأفق الاستراتيجي للمنطقة، وتظلُّ حيازة أسلحة الدمار الشامل حكراً على إسرائيل؛ ومن ثم يتم إضعاف النظام العربي وهزيمة الفلسطينيين عبر فرض الشروط الإسرائيلية عليهم.

وفي ظني أنّ ما ذهب إليه -باتريك سيل- وهو كاتب متخصص في شؤون الشرق الأوسط وقد نشر كلامه هذا عام 2007، قد حصل بحذافيره، وأصبح معروفاً أنّ احتلال العراق جاء بسبب تحريض وضغط العناصر اليهودية النافذة في أمريكا، وبمباركة عربية واضحة والتي تتباكى الآن على العراق.

لقد نجحت إسرائيل في العملية "هيبرون"، وأزاحت العراق من الخريطة كقوة عربية، وسيبقى عام 2003 عاماً فاصلاً في تاريخ الأمة العربية، منه تؤرخ الأحداث، كما أنّ عام 1979، - حيث عقدت مصر صلحاً منفرداً مع إسرائيل- كان حلقة أساسيّة أولى ضمن مسلسل ضياع العرب.

Zahir679@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك