فؤاد أبو حجلة
أعلن رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو أن الدولة الفلسطينية لن تقوم إذا ظلّ رئيسًا للوزراء، وتزامن تصريح زعيم اليمين الإسرائيلي مع تصريح لكبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات يؤكد فيه أنّ نتنياهو دفن فكرة حل الدولتين، وبالتالي قضى على مشروع التسوية.
نظريًا يبدو تصريح نتنياهو منسجمًا مع السياسات المعلنة لليمين الإسرائيلي المتطرف (لا وجود لليسار في إسرائيل)، ويبدو تصريح عريقات منسجمًا مع الخطاب السياسي للقيادة الفلسطينية الحالية التي تعتبر التسوية حلا وحيدًا للقضيّة الفلسطينية.
لكن الأمر لا يبدو منطقيًا في مرحلة انهيار الدول التي كانت قائمة ومتحققة في المنطقة العربية، وفي زمن تغيّرت فيه مواصفات الدولة العربية وشروط بقائها، مثلما تغيّر الواقع الإسرائيلي بعد أن انتقلت دولة الاحتلال من حالة الخوف من التهديد العربي إلى حالة الاندماج في الواقع الشرق أوسطي والانسجام السياسي مع النظام العربي الذي يختصر موقفه من فلسطين بتقديم المبادرات الاسترضائية لإسرائيل والولايات المتحدة، ورغم أنّ مصر والأردن والسلطة الفلسطينية فقط وقعت معاهدات "سلام" مع إسرائيل، إلا أنّ الإسرائيليين موجودون رسميًا في الكثير من العواصم العربية وموجودون فعليًا في كل هذه العواصم.
كما أنّ رفض حل الدولتين يبدو غريبًا في ظل التقسيم الجديد للجغرافيا العربيّة، وفي مرحلة يصير فيها الوطن أوطانًا، وتصبح فيها الدولة دولا. وليس سرًا أنّ العراق مثلا لم يعد دولة واحدة، فالأكراد لهم دولتهم في الشمال، والشيعة لهم كيانهم القائم على الأرض في الجنوب، والسنة العرب محاصرون في الغرب وفي الوسط.
السودان أيضًا صار دولتين واحدة في الشمال والثانية في الجنوب، ولبنان يعاني من وجود كيانين في دولة يتواصل فيها الصراع بين الآذاريين فالسنة لهم 14 آذار والشيعة 8 آذار والمسيحيون يتوزعون في الجبهتين.
في ليبيا أيضًا هناك حكومتان تتحالف إحداهما مع الجيش وتعتمد الثانية على الميليشيات المسلحة. وفي اليمن كيانان بعاصمتين إحداهما سنيّة في عدن والثانية حوثية في صنعاء ولا يعلم إلا الله كيف ستحسم المواجهة بين الطرفين.
أمّا سوريا التي أراد الغرب أن يقسمها مثلما قسم العراق، فإنّ الكيانات والتكوينات المتصارعة فيها تتبادل السيطرة على المدن والمحافظات في لعبة شبيهة بلعبة الكراسي الموسيقية، وإن كانت موسيقى اللعبة تُعزف بالسلاح.
وفي أجزاء كبيرة من غرب العراق وشرق سوريا تحكم "الدولة الإسلامية" بقوة الارهاب المدعوم أمريكيًا، وتتغير العملة والمناهج الدراسيّة والقوانين الناظمة للحياة لكي تنسجم مع قناعات الداعشيين.
لماذا إذن لا تصير فلسطين دولتين.. واحدة للعرب وأخرى للأعراق المستوردة؟
لا يخضع الأمر للمنطق، ولا منطق في السياسة أصلا، بل مصالح مرحليّة واستراتيجية تحكم القرار السياسي.
بالنسبة لليمين المتطرف الإسرائيلي تبدو حالة التشرذم العربي فاتحة للشهية التلمودية لابتلاع المنطقة العربية برمتها وإقامة إسرائيل الكبرى بين الفرات والنيل. ولا شك في أنّ بنيامين نتنياهو يستغل هذا التوجه لتوسيع قاعدته الانتخابية للبقاء في الحكم.
أمّا الولايات المتحدة فإنّ نقطة الاتفاق الوحيدة بين الحزبين الكبيرين فيها هي التنكر لحق الإنسان الفلسطيني والولاء الأعمى للمشروع الصهيوني، وليست الخلافات الصغيرة بين الرئيس باراك أوباما ونتنياهو إلا تفاصيل ثانوية لا تغير شيئًا في واقع الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل. وقد كانت مضحكة مهزلة الصدام السياسي الأخير بين الرجلين؛ لأنّ رفض أوباما استقبال نتنياهو في البيت الأبيض لم يمنع الأخير من الخطاب في الكونغرس وشن هجوم غير مسبوق على سياسات الرئيس الأمريكي.
لو كان نتنياهو مسؤولا عربيًا لما منحته الولايات المتحدة تأشيرة دخول إلى أراضيها.
المحيّر في الأمر هو موقف النظام العربي الذي كان يريد بقاء القضيّة الفلسطينية في حالة المراوحة بين الجمود والحركة لكي يستفيد كذبًا من الادعاء بأنّه في حالة حرب ما يبرر قمع الشعوب العربية ومصادرة حرياتها.
الآن يستطيع النظام العربي الاستفادة من وجود داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية المدعومة أمريكيًا لمواصلة قمع الشعوب ومصادرة الحريّات، ولم تعد هناك حاجة إلى التلويح بخطر إسرائيل والزعم بوجود عدو يمثل خطرًا وجوديًا على الأمّة.
في الواقع، ليس هناك جديد إلا في إدارة ظهر العالم للقضيّة الفلسطينية ونسيانها تمامًا، وتأجيل النظر فيها إلى إشعار آخر.
الوحيدون القادرون على تغيير هذا الواقع هم الفلسطينيون وحدهم.. بعيدًا عن النظام العربي وبعيدًا عن رؤى قيادة منخرطة تمامًا في المشروع الرسمي العربي الخائب.