جوسلين في لائحة رغباتي

ليلى البلوشي

"يكذب الناس على أنفسهم دوما"

بهذه العبارة قليلة الكلمات وكثيفة المعنى تطل علينا "جوسلين" بطلة رواية "لائحة رغباتي" للروائي "غريغوار دولاكور"، ترجمة "معن عاقل". لنتعرف على حياتها العادية، البسيطة، الواقعية في بعدها الخارجي ولكن العميقة، العاطفية، والفريدة من نوعها في بعدها الداخلي، لامرأة تحب حياتها كما هي وهنا عقدتها، في كونها تحب أن تبقى كما هي حتى بعد أن ربحت ورقة يانصيب بثمانية عشر مليون أورو. فما الذي تملكه جوسلين في حياتها كي تريد أن تتمسك به بهذه القوة؟

"جوسلين" تعيش في مدينة آراس مدينة تصفها بقولها: "مثل هذه المدينة المرعبة، هذه المدينة المكفهرة التي لا يستطيع أحد أن يفر منها ولا يصل إليها أحد قط ولا أي فاتك بالقلوب ولا أي فارس أبيض على جواد أبيض".

في هذه المدينة ولدت "جوسلين" وترعرعت في ظل أب تخذله ذاكرته بعد كل ست دقائق في حيّز ضيق من الزمن يتعرّف على العالم من حوله ويعود فينساه، وأم سقطت في وسط الشارع ميّتة حين كانت في السابعة عشرة من عمرها.

ومن مصادفات القدر زواجها من رجل اسمه "جوسلن" حروف اسمه تماثل حروف اسمها إلا من ياء "جوسلين" تلك الياء التي يسبب سقوطها كارثة في حياتهما القادمة. لهما ابن وابنة شقا طريقهما بعد أن كبرا وكبرت معهما مسافات اللقاء، ولها صديقتان توأم طريفتان ورشيقتان "دانييل" و"فرانسواز" ولها أيضًا حانوت لبيع أدوات الخياطة.

كانت موقنة أنّ الكذب هو أساس علاقتها وارتباطها بزوجها "جو" فـ "جوسلين" امرأة تعرف ذاتها وتقدرها كما هي؛ فهي تعي تمامًا أنها امرأة ليست جميلة، والجزء الأسفل من جسمها يشبه طوق نجاة وشعرها على شكل غابة صغيرة ظليلة، كما تعي أن الكذب كان له دوره الفعال، والأكيد، والمريح، في علاقتها بالعالم بدءا من زوجها "حملت برومان في الأمسية التي قال لي جو فيها إنّه يجدني جميلة وهذه الكذبة أفقدتني رشدي وملابسي وعذريتي".

وأمها أيضًا قبل أن تفارقها كانت تكذب عليها بعباراتها اللطيفة، لكن كذب الأمهات نابع من خوفهن على أبنائهن "حتى الأمهات يكذبن؛ لأنّهن أيضًا يخفن".

"جوسلين" التي تشغلها ظاهرة الكذب كثيرًا وتشكل حيزًا مهما من حياتها تعود وتؤكد "كلما كبرت الأكاذيب قل أن يرى الناس قدومها". هذا عن تأثيرات الكذب في حياتها، أمّا الأحلام فهي كانت تعرف جيدًا أحلام زوجها "جو" الذي كان يحلم في الحصول على شاشة مسطحة، وسيارة من نوع بورش كايين، وأفلام جيمس بوند في CD، وامرأة جميلة وشابة، وهذا الحلم الأخير الذي لم يبح به طبعا لزوجته.

حتى صديقتيها التوأم كانت لهما دفقة من الأحلام، وفي نهاية كل أسبوع يترقبن بشغف تحقيق تلك الأحلام عبر أرقام أوراق لعبة اللوتو، وهما اللتان حرضتا "جوسلين" كي تشاركهما شغف خوض غمار هذه اللعبة فقد كانتا تؤمنان أنّ لصديقتهما صاحبة - حانوت خياطة- حظ لا مثيل له ونبوءتهما تلك تحققت فعلا، ففي أول محاولة حصدت أرقام "جوسلين" الربح بثمانية عشر مليون أورو، لكن "جوسلين" التي كانت قد تلاشت أحلامها والتي تحب حياتها كما هي بالأشياء الثابتة وجدت نفسها في مأزق حظها الكبير، ألفت نفسها أمام تغيير هائل سيطرأ على حياتها القادمة، فالملايين تغيّر ثوابت الحياة التي قد اعتادت عليها والتي تحبها بكامل تفاصيلها العادية والبسيطة " كنت أعرف أنّ هذه النقود يمكن أن تفيدني، ويمكن أن تؤذيني أيضا" فالمال لم يكن يشغل بالها يوما، إنّها امرأة قنوع بحياتها والكيلوجرامات في جسدها وبالأكاذيب التي تضفي على حياتها بريقها، إنّها سعيدة مع زوجها " جو " وسعيدة بأحلامه التي كان يسعى لنيلها يومًا بعد يوم من خلال ساعات عمله الإضافية، وكان باستطاعتها أن تساعده في تحقيق أحلامه لكنها في الوقت نفسه كانت تؤمن أن "تحقيق أحلام الآخرين هو محاولة بهدمها " هدم اعتزازه بنفسه كرجل، وكان يكفيها أن يحتاجها "جو" فهي تؤمن بأنّ "المرأة تحتاج إلى أن يحتاجها أحد ما"، وسعيدة بحانوت الخياطة الذي أصبح ينال شهرة عالمية بفضل المدونة التي أنشأتها وأطلقت عليها "الأصابع الذهبية العشر" وهي التي ظلت تتساءل بعد أن أصبحت ثرية هل يمكن للمال أن يعيد أمّها التي سقطت في ذاك النهار؟ هل يمكن للمال أن يشحن ذاكرة والدها لأكثر من ست دقائق؟ هل يمكن للمال أن يوقف ظاهرة الكذب في حياتها وهي الحالمة دومًا بألا يكذب عليها أحد ولا حتى نفسها؟ هل يمكن للمال أن يستعيد الزمن الذي مضى فيقضي طفلاها إجازتهما في كنفها وزوجها "جو"

سقطت "جوسلين" في دوامة من التساؤلات حتى أنّها بدأت تفقد وزنها من وراء توقعات قد لا تسرها في حياتها القادمة كامرأة تملك الكثير من المال، المال الذي يغيّر كل شيء، والإنسان المادي الذي يشتري أشياء ويستغني عن أشياء "يذهب حتى إلى تحطيم زواجه كي يلقي بنفسه في قصة أخرى ومستقبل آخر ومنزل آخر" ولهذا اختارت أن يظل فوزها سرًا، وأن تخبئ الشيك في حذاء قديم ولكن ذلك لم يمنعها كأي إنسانة ثريّة وربحت مبلغًا باهظا من المال في أن تبدأ بتسجيل لائحة رغباتها، تلك الرغبات التي جاءت على مراحل كانت في البدء لائحة احتياجات ثمّ لائحة أحلام وأخيرًا لائحة رغبات، ولكن تلك اللائحة بعثرتها ريح طامعة حين طمس "جو" حرف الياء من اسمها "جوسلين" ليكون الشيك باسمه "جوسلن"، الياء التي سقطت فكانت وراء انهيار عشرين عاما من علاقة زوجية مشتركة بحلوها ومرها، بكامل تفاصيلها التي أحبتها "جوسلين" ولم ترغب يوما بتغييرها أو إلغائها، ولكن الزوج نفسه بعد أن صرف ثلاثة ملايين من الشيك على أحلامه السطحية والمادية ونساء نحيلات وفاتنات يدرك بعد وقت من الزمن أنه كان كزوجته "جوسلين" وأنه ما عاد يريد من الحياة سوى رغبة واحدة فحسب، أمنية وحيدة وهو أن يستعيد "جوسلين" وحياته السابقة معها.

بينما "جوسلين" بعد صدمة عام ونصف أدركت قاعدة مهمة جدا: "يكذب المرء على نفسه دومًا لأنّ الحب لا يصمد أمام الحقيقة"، كان قلبها فائضًا بالحب لنفسها ولأبيها ولمن حولها ولكن هذا الحب هش دائمًا أمام الحقيقة، لهذا يخترع الإنسان أكاذيبه كي يحيا!

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك