نظرة السلطان قابوس للثقافة والمثقفين[1– 2]

ناصر أبو عون

في بداية السبعينيات من القرن العشرين ومع بزوغ فجر النهضة العُمانية ومع الإطلالة الأولى للسلطان قابوس على شعبه مخاطبًا العقول قبل القلوب قائلاً: (إن مهمتنا الأولى أن نبني المدارس ونثقف المواطنين ونفتح نوافذ الحضارة) و(نريد لشبابنا أن يتسلح بالثقافة العمانية ويعتز بتراث بلاده وتقاليده ويحرص على دينه).. شهدت هذه الأيام بزوغ مصطلح (الثقافة) عالمياً وتشكله وتحوله إلى (مفهوم أساسي في علم الانثروبولوجيا)، غير أنّه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، صار لهذا المفهوم قدر من الأهمية ولكن بمعانٍ مختلفة في بعض التخصصات الأخرى مثل علم الاجتماع، والأبحاث الثقافية، وعلم النفس التنظيمي، وأخيرًا الأبحاث المتعلقة بعلم الإدارة. وفي هذه الزاوية نناقش رؤية السلطان قابوس المفدّى للثقافة العُمانية والمثقفين على وجه الخصوص، ونستخلص جوانب هذه الرؤية عبر تطبيق (استراتيجية تحليل الخطاب واستنطاق المضمون) والبحث في عناصر ومكوّنات المنتج الثقافي العُماني لما له من تجذّرات في التاريخ والحضارة العُمانية على تتابع الحِقب وتعاقب العصور.

وبمحاولة تفسير دلالة الثقافة في النطق السامي انتهى بحثنا إلى نتيجة مفادها أن السلطان قابوس المفدّى كان يعوِّل في إطلاق مصطلح "الثقافة"على تفسيرين ورد ذكرهما في علم الأنثروبولوجي؛ التفسير الأول: نبوغ القدرة الإنسانية لحد يجعلها تصنف وتبين الخبرات والتجارب بطريقة رمزية، ومن ثمّ التصرف على هذا الأساس بطريقة إبداعية وخلاقة. وهو ما أشار إليه بقوله "التعليم يجب ألا يبقى وسيلة لتثقيف الفرد فقط بل يجب أن يعنى أيضاً بتكوين شخصيته حتى تلعب عمان دورًا مهمًا في الشؤون العالمية "أما التفسير الثاني لمفردة "الثقافة" في خطابات صاحب الجلالة فقد وجدناه يشير إلى الطرق المتباينة للعديد من الناس الذين يعيشون في أرجاء مختلفة من العالم والتي توضح وتصنَّف بدورها خبراتهم، والتي تؤثر بشكل كبير على تميّز تصرفاتهم بالإبداع في الوقت ذاته. ونطالع هذا المعنى في قوله واصفًا المجتمع العماني بقدرته الفذة وقدرته الفريدة على"أن يعيش اليوم متغيرات عصره إلا أنّه لم يفرط في هويته وتراثه بل استطاع أن يجمع بين الطيب في تقاليده والطيب من واقع حاضره، والحمد لله فنسيج البناء العصري في عمان تترابط فيه التقاليد مع التحديث بمتانة ووفاق". وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية، صار لهذا المفهوم قدر من الأهمية ولكن بمعانٍ مختلفة في بعض التخصصات الأخرى مثل علم الاجتماع، والأبحاث الثقافية، وعلم النفس التنظيمي، وأخيرًا الأبحاث المتعلقة بعلم الإدارة .وقد قام علماء الانثروبيولوجيا والجغرافيون وعلماء الاجتماع باستخدام مفهوم منطقة الثقافة (جغرافية الثقافة) كوسيلة للتعرف عليها، وتصنيفها، وفهم أفضل للثقافة الإنسانية في بُعدٍ مكاني معروف، وتم تعريف المناطق الأساسية للثقافة على أنها (مجموعٌ متشابكٌ مِنْ السمات التي تتطور تطوراً كاملاً، وهي منفصلة الواحدة عن الأخرى بمناطق انتقالية للاختلاط الثقافي (التوزيع الإقليمي للثقافة).

إنّ ذهن الفرد في الحقيقة ليس ملكا لصاحبه وإنما هو ملك للثقافة التي صاغته إنه محاصر من حيث لا يدري فينشأ مغتبطاً بهذا الحصار الذي لا يحس به لذلك فإنّ أول وأهم واجبات الفرد أن يضطلع بمسؤوليته عن واقعه وعن مصيره وأن يستعيد ذاته ويشيِّد وعيه بنفسه ولكن الفرد لن يضطلع بهذا العبء الاستدراكي الثقيل إلا إذا زالت غبطته بما هو عليه وأدرك أنّه مختطف العقل والوجدان وأن قناعاته وعواطفه ليست من إبداع وعيه وإنما هي سابقة لبزوغ هذا الوعي إنّه بهذا الاكتشاف المتأخر لعمليات التشكيل التلقائية والمخططة التي صاغت عقله ووجدانه يكون قد قطع نصف المسافة إلى استعادة ذاته ويبقى عليه أن يواصل بناء قناعاته بنفسه وأن يتحرى الحقيقة ويلتزم بها حيثما كانت وأن يتقبلها من أيّ مصدر أتت.

وانطلاقاً مما سبق فإنّ جلالة السلطان المعظم استطاع عبر عقود من الزمن تكوين بناء ثقافي تدعمه اهتمامات واسعة بالدين واللغة والأدب والتاريخ والفلك وشؤون البيئة، انعكس جليًا على رغبته الواقعية وانتمائه التاريخي للتراث والثقافة العمانية ودورها الإقليمي والدولي في بناء حوار الحضارات بهدف إثراء التفاعل الثقافي ولتأسيس العرى المستدامة من الصداقة والتآزر بين الأمم وخدمة للوفاق والسلام العالميين ويظهر ذلك جلياً في الدعم الكبير والمستمر من لدن جلالته للعديد من المشاريع الثقافية، وبشكل شخصي، محليًا وعربياً ودوليًا، سواء من خـلال منظمة اليونسكو أو غيرها من المنظمات الإقليمية والعالمية. ومن أبرز هذه المشاريع على سبيل المثال لا الحصر:إنشاء منظومة من الكراسي العلمية في مختلف دول العالم ليصبح مجموعها اليوم 14 كرسيا أكاديميا في دول الخليج وآسيا وأستراليا وأوربا وأمريكا الشمالية تختص بالدراسات المتعلقة بالشرق الأوسط والثقافة العربية والإسلامية في جامعات (طوكيو وبكين وجورج تاون وملبورن وأكسفورد وكمبريدج ولايدن) واثنين في تقنية المعلومات في لاهور وكراتشي ومثلهما لقضايا البيئة في (أترخت الهولندية وجامعة الخليج العربي بمملكة البحرين) بالإضافة إلى كرسي العلاقات الدولية في جامعة هارفارد الأمريكية هذا بالإضافة إلى جائزة السلام الدوليةوجائزة السلطان قابوس لصون البيئةومشروع طريق الحريرالبحري وموسوعة السلطان قابوس للأسماء العربية والمجمع الثقافي دار الأوبرا السلطانية.

إذن هناك الكثير من الدلالات على أنّ فكر جلالة السُلطان قابوس متعدد في منابعه، ومُتفرد في توجهاته وتوجيهاته ومتسامح في تلقيه، وحازم في أوامره، منفتح على العالم، ومنحصر على رعاية شعبه، وعمان الجديدة صناعة أمينة من فكر السلطان قابوس، وشعبه أولى به من العالم أجمع، وكما يقول محمد عبد المجيد (السلطان قابوس تمكن من خلق أكثر المجتمعات العربية تسامحا في الدين والفكر والثقافة، في الوقت الذي لم يفرط العمانيون في ذرة واحدة من تراثهم وتقاليدهم وعاداتهم وتمسكهم بالإسلام الحنيف).

إنّ اكتشاف طبيعة الثقافة ومعرفة استقلالها عن المتشكلين بها تعد من الاكتشافات العلمية الأساسية الحديثة وبذلك فإن مفهوم الثقافة من المفاهيم المعرفية المحورية المتشكلة على أرضية التراث والنابعة من شخصية المكان والمتشكلة في الوعي وهي مفهوم يحمل كثافة مضمونية شديدة وهذه الكثافة الطارئة على اللفظ تقتضي استيعاب معناه الحديث وإدراك مكوناته المعقدة ودوره في الإبداع والابتكار. ومما له دلالة عميقة أن جلالة السلطان المعظم أكد على هذا المعنى في كلمته السامية التي وجهها الى الدورة 33 للمؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة - اليونسكو- بمناسبة مرور ستين عامًا على إنشاء المنظمة والتي عقدت في باريس في 3/10/2005 على "أننا نولي تراثنا الثقافي بمختلف أشكاله ومضامينه المادية أهمية خاصة ونعنى به عناية متميزة لما له من أهمية ودور ملموس في النهوض بالحياة الفكرية والفنية والإبداع والابتكار. ونبدي اعتزازنا بوجود مجموعة من المواقع الثقافية والطبيعية العمانية على لائحة التراث العالمي والتي تمثل دليلاً واضحًا على مساهمة العمانيين عبر العصور المختلفة في بناء الحضارات وتواصلها وتفاعلها مع الثقافات الأخرى".

وقد استندت حركة التحديث في سلطنة عمان إلى مقولات نظرية مستوحاة من تقاليد عمان بالدرجة الأولى، مع انفتاح مدروس ومبرمج على تجارب التحديث في الدول الأخرى الغربية منها والآسيوية على حد سواء. ووفقًا لرؤية الباحثة العمانية (سعاد بنت محمد بن علي بن سليمان) فإنّ التجربة العمانية تعتبر نموذجًا رائداً للمزاوجة بين الانفتاح على الخارج والحفاظ على الهوية كالمزاوجة بين الموسيقى الشرقية من جهة والأوركسترا والسيمفونيات من جهة ثانية بفضل التوجيهات السامية. كما تمّ جمع كل ما يتعلق بإرث الحضارة العمانية وتراثها العريق والقيم العمانية الأصيلة التي يتم تعليمها للجيل الناشئ والحفاظ عليه بشكل حضاري ونهج علمي. ويأتي اهتمام سلطنة عمان الملحوظ بتراثها وتاريخها ليصب في إطار ذات الرؤية التي وصف من خلالها السلطان قابوس المجتمع العماني بقدرته على " أن يعيش اليوم متغيرات عصره إلا أنّه لم يفرط في هويته وتراثه بل استطاع أن يجمع بين الطيب في تقاليده والطيب من واقع حاضره، والحمد لله فنسيج البناء العصري في عمان تترابط فيه التقاليد مع التحديث بمتانة ووفاق".

وللحديث بقية

Nasser_oon@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك