وثائقيٌ .. لم يُنجز بعد!

هلال بن سالم الزيدي

نعم أتذكرُ جيدا العام 2009م وتحديدا النصف الأول من شهر فبراير عندما بدأت في وضع المخطط الأول لكتابة فيلم وثائقي يحمل أبعادا مختلفة من الأطر التي يهدف إليها المشروع في مجمله .. لذلك كانت فترة العصف قاسية جداً لأنني لم أكن أرغب في فكرة منسوخة أو ربما ممسوخة .. لذلك فقد استغرقت من الوقت ما يقارب السنتين حتى أصل إلى قناعة تامة في سير السيناريو الوثائقي لهدف تاريخي وحضاري وسياسي واقتصادي وثقافي وسياحي برؤية مختلفة تماما من حيث الوصف واقتفاء أثر التاريخ الممتد في حقب مختلفة عبر الشخوص والمنجزات..

كانت الفكرة متدفقة على وقع صوت "لوحة المفاتيح" فتشد على وتر التاريخ من بوابة القلاع والحصون والأبراج(تاريخها مكوناتها وما لعبته في التاريخ العماني)، وتتدفق الأفكار مع تدفق الأفلاج والعيون والوديان .. وتتمازج خيوطها عند الدخول في الحياة العامة للناس من حيث المهن (صيد، زراعة، رعي..) .. وتشتعل مرة أخرى عندما تلامس دقة وأهمية الحِرف التقليدية، (من صناعات وغيرها) وتتراقص طربًا على شدو الفنون الشعبية... وتسكن في تأملاتها عندما تطأ المساجد والمتاحف والأضرحة... وترحل مع أصوات النهام وعلو الأشرعة عندما تقف على الشواطئ والسواحل لتمخر العباب.. وتأخذها السكينة الفكرية عندما تستقرئ القرى الأثرية.. وتلامس تداخلات الزمان والمكان عندما تقف على بوابة الأسواق الشعبية.. وتشد رحالها في البادية مع امتداد رمالها الجميلة.. وتسجل حضورها عندما تتجول في المحميات الطبيعية... والكثير الكثير من هذا التكوين .. هذا التاريخ .. هذه الحضارة ..هذا الإنسان ..

وتستمر التدفقات إلى حدودها القصوى .. لتبدأ إشارات السرد التي ستشكل بُعد الحكاية لهذه الحضارة ممزوجة بالتمثيل والسرد والتقصي والبحث .. ومفاجآت اللحظة التي ستشكل جزءًا آخر من الرؤية السردية..

لا أدري كيف كان الخيال يدفع بي إلى منتجع شانجريلا للانطلاقة نحو السرد الوثائقي .. لذلك كنت حريصًا على أن يكون المشهد والمكان عاملا للغوص في تاريخ هذا الوطن بكل تفاصيله وكما يعرف الجميع أن البحر ملهم للفكر .. فكان التوجه لتوفير غرفة في المنتجع وتكون مواجهة للبحر يعيش فيها الراوي ليكتب تفاصيل مشاهد الفيلم.

في التوجه العام كان لا بد من تحديد المسار عن طريق عنوان يلامس الهدف لتتكامل كافة المشاهد لذا اخترت وبعد صراع مع الفكرة عنوان : (على أثر ابن بطوطة إلى عُمان) ، ومن هنا تجلت لي شخصية الراوي والذي سوف يقوم بهذه الرحلة وتسجيل كل تفاصيل الفكرة.. لذا كان الاختيار لشخصية لديها لكنة مغاربية، من أجل التوافق في العنوان والفكرة لأنّ المغزى العام يتأسس على إعادة رحلة ابن بطوطة لكن بتفاصيل أكثر دقة وبتقنيات العصر الحديث بحسب ما يتشكل من مشاهد وما يتاح من إمكانيات .. فالقصة الوثائقية تبدأ من طنجة كونها مسقط رأس الرحالة العربي ابن بطوطة، وهنا تتداخل المشاهد التمثيلية التي تضع المكان والزمان على منهج واضح لاقتفاء أثر هذا الرحالة وتسقط عليها حضارة عُمان.

فصول تلك الفكرة لم تكتمل لكنها أسست لإرهاصات كثيرة من أجل النضوج التام لها، فكان التوجه فيما بعد للبحث عن ممول أو منتج لهذا العمل المضني والشاق، ومع ضرورة تداول الحديث وطرح الاستفسارات مع عدد من المختصين .. توصلت إلى فترة تأمل وتريث لانتهاز الفرصة من أجل بداية المشروع .. لأنني مثقل بكاهل العمل الوثائقي وأجد نفسي فيه أكثر من المجالات الأخرى فارتأيت ألا أقدم شيئًا إلا ناضجًا، وبالتالي ومن خلال تأثري بمختلف المدارس الوثائقية في العالم ولعل أبرزها الجزيرة وناشونال جيوجرافيك والمدرسة الفرنسية المتفردة بأسلوبها كان لزاماً عليّ أن أضع كل التفاصيل والاحتياجات التي تؤدي إلى تكامل العمل..

المشاهد تتوالى لتشق طريقها على لوحة المفاتيح .. وهنا أضع للقراء أجزاء منها حتى لا تذهب في غياهب النسخ ..

"من بوابة التاريخ ننطلق إلى تلمس الطبيعة الحيّة الزاخرة بجماليات الكون .. ومن معاقل التراث نقرأ عظمة البناء وفنون العمارة ... ومن بين سطور الموسوعات وعبارات الكتب نعيد تاريخ الحضارة وأمجاد الأجداد.. ومن الواقع نشاهد ما تبقى من أثر بعين السائح الباحث عما وراء الصورة... في حكاية حضارة .. الحكاية الموغلة في القدم".

"هي مسيرة نعيد سرد فصولها بعد عقود من الزمن.. نتلمس متغيرات الحياة نعود لأصول الرحلة في مسيرة ابن بطوطة من شمال عُمان إلى جنوبها.. نقرأ بصمات رموزه.. نستفرد بتتبع مرحلة المخاض الحضاري للوصول إلى النضوج العالمي في خريطة صناعة السياحة.. فهي نفس الرحلة لكن الوسائل تغيرت واتجاهات البوصلة تجددت، فاختصرنا معاناة المسافة.. واستمتعنا بقراءة مفردات الطبيعة.. فاقتفينا الأثر.. وشددنا الرحل على الراحلة وتمسكنا بزمامها.. فعلى آثارهم نسير".

"أبا عبدالله (ابن بطوطة ) .. استميحك عذرا واستأذنك في أن أقوم بتخليد رحلتك وتوثيقها بما يخدم عصرنا الحاضر .. فسأمخر السبع الطباق.. وبسرعة البراق .. لاختصر الزمان .. وأدون بتقنية العصر مشاهد الحياة".

"تذكرت وأنا أقلب في مفكرتي ما حدثني به جدي ذات ليلة جميلة حيث القمر يعكس أشعته الوضاءة في صفحات تلك الشواطئ ذات الرمال الذهبية.. حدثني عن مكان يقع في أقصى الجزيرة العربية يقال له عُمان ومجان وبلاد النحاس .. ذات التاريخ الخالد الذي بناه العمانيون الأفذاذ كما ورد في كتاب تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار للرحالة المغربي ابن بطوطة.. فراودتني الفكرة في إحياء هذا المسار لهذا البلد ولأني مغربي الأصل فأنا الأولى أن أحيي سيرة هذا الرحالة إلى بلاد الكرم والضيافة "عُمان".

فكانت وجهتي إلى بلاد الأمن والأمان.. عُمان... لأكتشف سياحة الزمان والمكان وروائح عبق اللبان في تاريخ حتشبسوت وملوك الفرس والرومان.فكان ما كان في.. "على أثر ابن بطوطة إلى عُمان"...

وهكذا تنحو المشاهد في وصفها وتعمقها في الصورة .. لتنقل كل التفاصيل ...

وماذا بعد ..

في عام 2013م وبعد التجليات الإعلامية التي غيرت في جزء من مسار الإعلام العماني بادرت بالحديث عن الفكرة لأحد المسؤولين من متخذي القرار ليفاجئني بأن الفكرة ستبث قريباً .. وعليك أن تبحث عن أخرى.

باختصار شديد .. الفكرة أو المشروع شاع عند ثلة من الأفراد دون قصد .. فانبرى أحدهم ليستنسخ الفكرة بشكل ممسوخ وقدمها كمشروع تلفزيوني، وتمّ بثه .. لكن لم يكن كما هو متوقع .. ولم يكن صداها بقدر ما أتيحت لها من إمكانيات .. فذهبت ولم تعد.

لا زال المشروع حاضرًا وبقوة إلا أنّه يحتاج إلى دعم مادي ومعنوي وفكري.. وما سردته في هذا المقال جزء بسيط من مشروع كبير، وذلك من أجل المساهمة في حفظ التاريخ الذي أراد الآخرون أن ينسبوه لأنفسهم .. وهو منهم بريء.. وعليه سأحتفظ بما ورد أعلاه من خيوط ستصلني يومًا ما إلى تنفيذها حتى أجد من يدعم المشروع لا من ينسخه.

همسة:

التاريخ لا يشترى .. فمن ليس له ماضٍ .. ليس له حاضر ولا مستقبل.

*كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك