الصورة ثلاثية الأبعاد عابرة للزمن

رحاب أبو هوشر

في السنوات الأخيرة، دخلت السينما طورا تقنيا جديدا، مواكبة للقفزات التكنولوجية في نوعية وخصائص الصورة وأجهزة التصوير السينمائية، لتنتج أفلاما بتقنية الصورة المجسمة "الثلاثية الأبعاد-3-Dimentions"، لا سيما في إنتاج أفلام التحريك "Animation"، حيث نشاهد الصور المرسومة، الشخصيات والطبيعة والعناصر الأخرى، عميقة وحية كأنها حقيقية، وتختفي المسافات بيننا وبينها، نصبح مشاركين بها وجزءا منها.

إنها تقنية تقارب الدمى، العالم السحري الذي طالما جذب البشر عبر التاريخ صغارا وكبارا، والذي يعود بنا صغارا، كلما رأينا أطفالا متعلقون بدميتهم المفضلة، أو شاهدنا واحدا من هذه الأفلام المدهشة، بشخصياتها/ دماها الساحرة الخيال، كأنما الدمية استعارة ابتكرها الإنسان لمعاينة ذاته، في محاولته كشفها وفهمها، وإسقاط أفكاره ومشاعره وهواجسه، على مجسم صنعه ليحمل شكله وملامحه، ويخبئ فيه مخاوفه ودهشاته، التي لا يمكنه البوح بها!

لم تبدأ علاقة البشر بالدمى مؤخرا، ولم تبتكر السينما "ثلاثية الأبعاد" فلسفة الصورة المجسمة، وإن ابتكرت التكنولوجيا تقنيتها، فالدمية، أي الرسم المصنوع المجسم، من أقدم رفاق الإنسان وجودا على الأرض.

يجمع المؤرخون والباحثون، على أن الدمى ابتكار إنساني ضارب في التاريخ، وما ظهر من نتائج كثير من البحوث والدراسات، كان يفصح عن ارتباط الدمى بأقدم الحضارات الإنسانية: حضارة النيل وحضارة الرافدين. روايات تاريخية أخرى تذكر أن أول معرفة البشرية بالدمى، تمتد إلى العصور الفرعونية في مصر. متحف اللوفر في باريس يحتفظ بدمى فرعونية، وتم اكتشاف ألعاب مصرية قديمة على هيئة عرائس، دللت على حضورها كألعاب للأطفال المصريين القدماء، على أشكال الحيوانات والبشر.

أما الباحث "فاضل خليل" فيقول بأن الدمى عرفت في العراق منذ ما يقرب الثمانية آلاف سنة، حيث أن الإنسان ومنذ القدم اتخذ من خياله عالما واسعا، وأدرك من خلاله العلاقة الوثيقة التي تربطه بالدمية، ويستدل على ذلك بالدمى الطينية الأثرية، التي تمثل بعض الحيوانات وكذلك تمثال "الإلهة الأم".

وتذكر عدة مصادر أن شعوبا عديدة عرفت الدمى، ليس فقط كألعاب للأطفال، بل تم توظيفها لخدمة مضامين وأغراض عديدة بمرور الزمن. وسواء خرجت الدمى من مصر القديمة أو حضارة العراق القديمة، إلا أنها انتقلت إلى أرجاء مختلفة من العالم، عبر السفر والتجارة والحروب وموجات الهجرة البشرية، ولذلك وصلت الدمى وما تمخض عنها من توظيفات إلى الفينيقيين والآشوريين وغيرهم.

الدمى مثلت الشكل الفني الأكثر عفوية والتصاقا بالمخيلة الإنسانية الأولى، وأكثرها استجابة لها. ربما لسهولة صنعها، وتقنياتها شديدة البساطة والمرونة، ووفرة موادها، وبمعايير جمالية فائقة نسبيا في نفس الوقت. وربما بسبب ذلك السحر البدائي- الفطري، المتولد عن شكل الدمى وألوانها، والدهشة الناتجة عن القدرة على تصنيع شكل يقارب شكل الكائن الحي، إنسانا كان أو حيوانا، وبأحجام خارج المألوف يمكن للإنسان التحكم بها، فقد تكون الدمية صغيرة أو كبيرة جدا قياسا لما ألفه إنسان تلك العصور. الدمى أيضا شكلت سحرا ضاعف الدهشة تجاه ما تحمله الطبيعة من إمكانيات تشعل المخيلة. كانت تصنع من الصلصال والقش وورق الشجر ومواد أخرى حفلت بها الطبيعة. لذلك، حافظت الدمى على ديمومتها التاريخية، لم تندثر ولم ينقطع وجودها أو يختفي دورها منذ ظهورها، وصارت مكونا للوجدان البشري، يتم استحضاره مهما بدا أنه ابتعد.

بذلك يمكننا أن نفهم أيضا، أن الإنسان طوع الدمية لخدمة احتياجاته وفق مراحل تطوره الإنساني والفكري. لا غرابة أن الدمية لعبت دورا في المعتقدات الدينية الأولى، وما ارتبط بها من طقوس وأساطير، وأسقط الإنسان عليها حاجته الوجودية الأولى في بحثه عن إله، وجسدت أول توظيف ثقافي واجتماعي، لما ملكته من تأثير مبهر على الناس. الدمى/ التماثيل ارتبطت بالمعابد في تاريخ الديانات، وكان الكهنة يستخدمون الدمى في طقوسهم الدينية لنشر النصوص والتعاليم الدينية بين الناس، الذين كانت تستبد بهم دهشة المتخيل المتجسد أمامهم، والمغاير النادر لألفتهم مع بشريتهم، ويحمل ملامح غريبة وجديدة تأخذ بشغاف عقولهم وأرواحهم، ليمارس سطوة الاستثناء والفرادة عليهم، ويسهل على الكهنة التأثير في عواطفهم وأفكارهم، وضمان وصول رسائلهم الدينية إليهم.

وكلنا نعرف المعابد البوذية في بلدان آسيا، بتماثيل بوذا العديدة وتلاميذه الكبار، وأثرها الروحي ونفوذها، الذي مارسته قبل قرون طويلة، منذ أن اخترع الإنسان الدمى وسيطا لاشواقه الروحية. وما زالت شعوب أمريكا اللاتينية المسيحية، في فنزويلا وبوليفيا وغيرها، تمارس طقوسها الدينية، مختلطة بالإرث الثقافي للشعوب الأصلية "الهنود الحمر"، المتصل بمعتقدات الطبيعة، حيث تخرج من الكنائس دمى هائلة "مقدسة" لمريم العذراء والقديسين والقديسات، ترتدي أجمل الثياب وأكثرها فخامة وجلالا وتزين بالأزهار وغصون الأشجار، لتقام لها الطقوس والنذور في الأعياد والمناسبات.

أهم تحول في العلاقة مع الدمى، حدث بعد ذلك بتوظيفها في فن المسرح، وسمي مسرح العرائس/ الدمى، وكذلك في برامج الأطفال التلفزيونية، وأخيرا وظف مفهوم العلاقة مع الدمى في أفلام التحريك وإن لم توظف الدمى ذاتها.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة