"العقوق" يلقي بـ "ثمانيني" في غياهب النسيان!

رصدت التجربة- مدرين المكتومية

 

يحكي الثمانيني "م.ح" تجربته بمزيج من الألم والأمل، بعدما بلغ من الكبر عتيا، فعلى الرغم من أنّ هذا الجد على مشارف العقد التاسع، ويحيا وحيدا، إلا أنه لم يفقد الأمل في أن يواصل الحياة، متكئاً على مخدعه في انتظار من يحنو عليه ويعينه على مصاعب الحياة..

الناظر إلى وجهه الشائخ يستطيع أن يتعرف على عدد السنين التي قضاها هذا الرجل منذ بدأ يشق طريقه في الحياة، فبشرته الحنطية والخطوط التي تشق جبينه طولا وعرضا، ونحالة جسده، وصغر عينيه اللتين تحيطهما هالة من البياض، تعكس آلام وأحزان هذا الكون مع ذلك الرجل..

فقد "م.ح" زوجته وشريكة عمره منذ سنوات ليست بالبعيدة، فكانت تشكل عالمه الخاص، وتملأ عليه بهجة الحياة، لكن نورها انطفئ فجأة ليجد نفسه وحيدا مستلقيا على سريره بين أربعة جدران..

يروي الجد العجوز مسيرة حياته الحافلة بالعطاء الإنساني لمن حوله، حيث خرج الى العمل منذ صغره، باحثًا عن لقمة العيش، فسافر إلى الكويت للعمل هناك آملا أن يأتي بما يطعم به أبناءه، لكنه وبعد سنوات من الجد والاجتهاد عاد إلى أرض الوطن، ليشتغل بمهنة الأنبياء والرسل، بين المزارع ورعي الأغنام.

العمة سلامة

ويقول الجد متحدثا عن زوجته الراحلة: العمة سلامة.. هكذا كانوا ينادونها، والتي رحلت عنه منذ ثلاث سنوات، لكنه لا يزال حتى الآن يتذكرها وكأنها تعيش معه، ولا يتذكر شخص غيرها، ولا يتحدث سوى عن هذه المرأة التي شاركته مسيرة الحياة، فهي التي وقفت بجانبه عندما عانى الآلام والأمراض، كانت رفيق دربه، غير أنها ودعت عالمنا بعدما أصيبت بجلطة قلبية صعدت روحها إلى بارئها على إثرها.

تذرف عينا الرجل كلما تذكر زوجته المخلصة، ويسيل الدمع بين شقوق وجهه العميقة، مطأطئا رأسه، ثم يرفعها لينظر في أسى وحنين، ويقول إنّ العجز والكبر وآلام الشيخوخة لا يتحملها أبناء الجيل الحالي، فجميع أبنائه يعملون بعيدًا عن القرية، وهذا يؤدي به إلى المكوث أياما وليالي متعددة وحيدا دون جليس أو أنيس، باستثناء روح زوجته التي تحوم حوله عندما يتذكرها. ويضيف أن البعض قد يزوره فيقدم له الطعام، لكن أوقات أخرى لا يجد حتى من يطرق عليه الباب، فيعيش فترات طويلة دون مساعدة، رغم عجزه وكبر سنه، ويعاني الأمرين إذا ما أراد أن يذهب إلى دورة المياه، أو حينما يرغب في تناول الطعام، أو الدواء.

من يرعاني؟!

ويواصل الجد حديثه الممزوج بالألم الذي يعتصر قلبه: كانت لدي عاملة بالمنزل وعامل آخر لرعايتي، وأقطن في منزل ابني الكبير مع زوجته وأبنائه، ولطالما تمنيت أن أجد منهم الاهتمام والرعاية، لكن زوجة ابني "المتمدنة" لا تقوى على الحياة القروية التي نحياها، ودائمًا ما تتعامل مع المكان بنوع من الاستعلاء وهو ما زرعته في أحفادي تجاهي، الذين تشعرهم دائماً وكأني عالة عليهم، فلا يهتمون بوجودي، إلا في حضرة ابني. ويشكو الجد من أنّ زوجة ابنه تدعي المثالية في تعاملها معه فقط عندما يتواجد ابنه، فتبدي اهتماماً بي رغبة منها ألا يقطع عنها المصروف أو يخاصمها فيتزوج عليها.

ويضيف: تحدثت إلى ابني مرارًا وتكرارًا حول هذا الأمر دون أن يستمع لي، بل لطالما كنت أشعر وكأنني أظهر له في صورة الكاذب، وأن شكواي إنما محض افتراء وزور، على زوجته "الملائكية".

ويؤكد الجد أنه يعاني أشد المعاناة عندما يجد أحفاده لا يكترثون له، رغم أنّهم الأحب إلى قلبي، فلطالما أحببت أن أراهم بجانبي يقدمون الخير لي ويطلبون مني الدعاء لهم، فكل يوم انتظر أن تشرق فيه الشمس فيأتي أحدهم ليعتذر لي عن إهماله أو أن يبدي حبا واهتماماً تجاهي، كما أحبهم، أو أن يساعدني أحدهم في تناول الماء.

ويروي الجد مأساته في غرفته التي تعج بالغبار والأتربة على أسطح الأثاث فيها، علاوة على رائحتها التي تؤكد عدم الاهتمام بنظافتها، فلم يجد يوماً أن أحدهم حاول تنظيف الغرفة أو وضع البخور فيها، بجانب أنه عندما يريد أن يذهب إلى دورة المياه، يضطر لانتظار العامل حتى يعينه على ذلك، في موقف بالغ الإحراج.

وما يزيد من مأساة الجد، أنه يجد رعاية واهتمامًا من ابن الجيران أكثر مما يجدهما من ابنه وأحفاده!!

أمنيات هرمة

ويضيف: إنني احتاج لمن يأتي لزيارتي ويتحدث إليّ حتى لا أفقد القدرة على الحياة، أتمنى حين استيقظ أن أرى زوجتي أمامي، فهي التي كانت تتحدث إليّ بصدر رحب، وهي من تحملت معي شظف العيش والضنك في أيام ماضية، ولم ترفضني أو تبتعد عني ولم تحتقرني في يوم من الأيام، وأصعب ما يمر عليّ هو أنني لم أترك أبواي يومًا أو أغضبهما في شيء، فلماذا يعاملني الأبناء بمثل هذه التصرفات، ولماذا يرفضون مساعدتي، حتى زوجاتهم يتعاملن معي بتجاهل ونفور".

ويمضي ساردا معاناته: "أكره أن يأتي غريب لزيارتي فتؤذيه رائحة المكان أو أن يراني أذرف الدمع من شدة الآلام التي أعاني منها، وكلي أمل ورجاء أن أرحل إلى حيث رحلت سلامة وأن أكون بجوارها في عالمها الآخر، البعيد عن هذا الكره والحقد والإهمال، فكلي يقين بأني بجوار ربي سأكون في حال أفضل مما أنا عليه الآن.

ويشكو الثمانيني "م.ح" من الآلام التي لا تنتهي وتلاحقه يوماً بعد الآخر، فيقول إنه يموت في اليوم الواحد مرات ومرات، نظير عدم الاهتمام والمعاملة القاسية والمذلة له، لكنه لا يفقد الأمل في حياة أخروية أكثر سعادة وراحة..

تعليق عبر الفيس بوك