حميد بن مسلم السعيدي
يقول لي أحدهم إنّك تبحث عن المثالية من خلال نظرتك لمنظومة المدينة الفاضلة في فكر المواطنة، وهذا الفكر من الصعوبة مناقشته في مجتمع يؤمن بقوة ارتباطه العاطفي بهذا الوطن، وهنا تكمن التناقضات في هذا الطرح؛ فما نبحث عنه اليوم ليس ذلك الارتباط العاطفي بقدر ما نبحث عن الأفعال التي تبرهن على قوة ذلك الارتباط، مما يمثل لنا أننا أمام أزمة فكرية ومعرفية في مدى معرفتنا وتمييزنا بين المفاهيم المرتبطة بالوطن والمواطنة، ففي افتتاحية كتاب طرق العبور للمواطنة المسؤولة للدكتور سيف المعمري يتساءل "متى سيحتلنا الوطن وندمن العطاء له، ويحضر معنا في كل قراراتنا وأفعالنا؟".
قراءتي لكتاب طرق المواطنة المسؤولة يجعلنا نتوقف قليلاً وربما أن نصمت ألماً من خلال رؤيتنا للواقع؛ لأننا بحاجة إلى مرحلة التغيير، بل ربما بحاجة أكثر إلى الإصلاح، طالما أننا حتى اليوم غير قادرين على تفسير وفهم المواطنة الحقيقية وإدراك أبعادها ومتطلباتها ووسائل تنميتها وفقًا لما توصل إليه العديد من المختصين في أدبيات المواطنة.
إنّ تقدم الوطن ورقيه وتطوره يحتاج إلى المواطنة القادرة على العطاء من أجله والإخلاص في العمل، والأمانة في المسؤولية، والبذل والتضحية في سبيل النجاح، فعندما ننظر إلى الدول المتقدمة وما وصلت إليه من تطور اقتصادي ومالي لم يأتِ ذلك إلا من خلال المواطن، الذي سعى إلى بناء وطنه والعمل بجد وإخلاص في سبيل أن يكون في مقدمة الدول، فعندما نتحدث عن أن الأقوال ليست هي السبيل الحقيقي لذلك الانتماء الذي نبحث عنه، وإنما من خلال الإنتاج الفكري المرتبط بهذا الوطن، هي ليست تلك المثالية في الغاية أو الطموح، وإنما هي الطريق الذي يحقق الوصول لتلك الغايات الوطنية العليا.
إنّ إيجاد المواطنة الحقيقية في المجتمع يحتاج إلى بناء إستراتيجية واضحة من خلال العديد من المؤسسات التربوية والاجتماعية بحيث تحقق التكامل في الأداء، وهذا البناء يتوجب أن يتميز بالثبات والاستقرار بحيث يحقق الغرس المتمكن في المواطن، خاصة وأنّ المواطنة بمفهومها الأدبي تتضمن العديد من الرؤى الفكرية والثقافية التي يتضمنها الإطار الوطني المرتبط بها، وهي تحتاج إلى عملية متعمقة تستطيع التوغل في الفكر الداخلي للمواطن وترتبط بالشعور العاطفي ذي الانتماء الوطني، والذي ننطلق فيه من فكر جلالة السلطان قابوس بن سعيد والذي أكد في أكثر من محفل على ضرورة التنشئة الحقيقية لأبناء هذا الوطن "أننا نؤكد على ضرورة أن تغرس هذه السجايا الحميدة والقيم الرفيعة في نفوس النشء منذ نعومة أظفارهم في البيت والمدرسة والمسجد والنادي وغيرها من محاضن التربية" لذا فالأمر يتوجب أن تساهم العديد من مؤسسات المجتمع في عملية بناء المواطنة ومنها:
الأسرة: المؤسسة التربوية الأولى ويقع على عاتقها المسؤولية الأكبر في بناء الإنسان في بداية نشأته، ومدى مقدرتها في تكوينه، وفقا للمبادئ والقيم والاتجاهات الوطنية، من خلال غرسها في نفوسهم، وممارساتها في واقعهم من قبل من يتولى أمرهم في مرحلة البناء الأولى، ففي هذه المرحلة كل ما يلاحظه الطفل يتعلمه ينغرس في نفسه ليصبح جزءًا من حياته في المراحل اللاحقة، فما يقوم به من سلوكيات متنوعة إيجابية أو سلبية كانت إنما هي نتيجة لتلك التربية.
المجتمع: البيئة التربوية الحاضنة لكل الممارسات والسلوكيات التي يمارسها أفراده، وما يحدث فيه ينغرس في فكر أبنائه، وهذه الممارسات يتوجب معها أن تكون إيجابية أكثر من الممارسات السلبية، ومن الصعوبة بالفعل أن تبقى كل الممارسات إيجابية؛ لأن ذلك مرتبط بقيم أفراد المجتمع، إلا أن المؤسسات الاجتماعية المتنوعة والجمعيات المدنية قادرة على ممارسة أدوار أكثر معيارية في تثقيف المجتمع من خلال البرامج المتنوعة والمرتبطة بفكر المواطنة، خاصة وأن من يتولى الإشراف على هذه المؤسسات هم ما يمثلون الفكر الثقافي المجتمعي الأكثر تطوراً، وعلى هذه المؤسسات أن تخرج من عباءتها التقليدية في تحقيق الرؤى الخاصة بها، إلى تطبيق برامج وفعاليات مرتبطة بالمواطنة، بحيث تساهم في بناء مجتمعات متقدمة حضاريًا وفكريًا واجتماعيًا.
المؤسسة التربوية: فسلفة التربية العُمانية تسعى إلى غرس وتنمية الشعور بالانتماء والاعتزاز بالوطن، والتأكيد على تماسك المجتمع العُماني باعتباره قوام الوحدة الوطنية التي هي موضع اعتزاز وافتخار، ومن هذه الفلسفة تشق أهداف العملية التربوية التي تهدف إلى بناء الإنسان العُماني، والذي يقوم بهذا الدور المؤسسة التربوية حيث يتم فيها تنشئة الطلبة وبناء قدراتهم وانتماءاتهم الوطنية من خلالها، وغرس قيم المجتمع ومعتقداته في نفوس الطلبة، وتكوين الاتجاهات الإيجابية، والتي تنطلق من خلال فكر تربوي يسعى إلى غرس مفاهيم المواطنة الحقيقية، وتعديل المعتقدات والأفكار، واكتساب الطلبة المهارات الأساسية والسلوكيات الصحيحة، والإسهام في رفع مستوى المعرفة الثقافية المرتبط بالمواطنة، وإشراكهم في العديد من الفعاليات الوطنية، وتحسين السلوك المرتبط بالممارسات التي تؤكد على المواطنة المسؤولة؛ ولكن هناك فجوة متسعة كثيرًا بين هذه الأهداف والواقع.
المؤسسة الدينية: ما زال الخطاب الديني لا يرتقي إلى المستوى الذي يفترض القيام به في مجتمع يتمسك كثيرا بعقيدته الدينية، بالرغم من أنها تمتلك العديد من الوسائل التي يمكن من خلال القيام بأدوار تسهم في تحقيق المواطنة المسؤولة لدى أفراد المجتمع، لأنها تُعد الأكثر قوة في مخاطبة أفراد المجتمع من خلال القيم والاتجاهات والمبادئ الدينية التي يؤمن بها، إلا أن هذا الدور ما زال بحاجة إلى عمل مخطط لها بعيدا عن العشوائية الفكرية، خاصة وأن ما يرتبط بممارسات الفرد يقوم على قوة إيمانه بعقيدته الدينية، وهذه القوة هي من يضبط تلك السلوكيات والممارسات التي يقوم بها، وعندما ننظر للمصادر الدينية كالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة نجد أنها تتضمن العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المرتبطة بمبادئ وقيم الوطنية.
المؤسسة الإعلامية: تتطور الوسائل الإعلامية بصورة مستمرة خاصة في ظل التطور التقني والتكنولوجي الذي أصبح أكثر قربا وتواصل مع أفراد المجتمع، خاصة مع ظهور العديد من وسائل التواصل الاجتماعي، والأجهزة التقنية التي أصبحت أكثر قربا من الفرد، والتي تسهم في أثراء المستوى الثقافي والفكري والعقائدي نتيجة للتواصل مع العالم، مما يؤدي إلى دخول العديد من القيم والاتجاهات والانتماءات الوطنية، والتي تؤثر بصورة سلبية على انتماء الفرد، لأنه يقوم بأحداث مقارنات بين ما ينظر اليه في العالم الخارجي وما يحدث في وطنة وهنا تتمثل خطورة تلك المقارنة إذا لم يكن الفرد على مستوى عالي من الوعي الفكري والثقافي والتحصين الداخلي ضد كل هذه المؤثرات، وحتى تتمكن من تحقيق ذلك التحصين فعلى المؤسسة الإعلامية أن تنتهج ذات الفكر وتصبح أكثر تواصل مع أفراد المجتمع وبصورة أكثر قبولاً. كثيرة هي الحلول التي تبحث عنها الدكتور سيف المعمري في الفصل الأخير من كتابك وفي اصداراتك السبعة حول المواطنة، إلا أن أهمها الرؤية الحقيقة القائمة على غرس المواطنة المسؤولة هي السبيل نحو العبور.