صُعود خطاب "الإسلاموفوبيا"

حاتم الطائي

تصاعدتْ خلال العقدَيْن الماضِيَيْن في الغَرْب النَّبْرة العدائيَّة ضد الإسلام، وتعالتْ الأصواتُ المحذِّرة من إرْهَابِ المسلمين وعُنفهم، في تعميمٍ غَيْر مُنصفٍ، وإطلاقٍ غَيْر حصيف.

... إنَّ الخوفَ من الإسلام أو الرُّهاب الإسلامي "الإسلاموفوبيا" في العَصْر الحديث، مفهومٌ جديدٌ نسبيًّا تسلَّل إلى الخطاب الغَرْبي المتطرِّف بداية في مُنْتَصف سبعينيَّات القرن المنصرم؛ ليزدادَ حُضورًا مع كلِّ حادثٍ تكونُ له صِلَة بالإسلام؛ كما حَدَث في أعقاب هَجَمَات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 على الولايات المتحدة الأمريكية.

وإذا أرَدْنَا التأصيلَ للدَّوافع التي حَدَتْ بالغربِ إلى تعميقِ وتجذيرِ الخَوْف مِنَ الإسلام في عَصْرِنا الحالي، فيجبُ أنْ نَرْجِع إلى حُقبة ما بَعْد انتهاءِ الحَرْب الباردة بَيْن المعسكريْن -الغربي، والشرقي- وتفكيك الاتحاد السُّوفيتي، وانكفاء رُوسيا على مُشكلاتها الداخليَّة ومُعالجَة أزماتها. عِنْدها اتَّجه الغربُ المنتشي بانتصاراته إلى خَلْق عدوٍّ جديدٍ؛ لتتفتَّق ذهنيَّة الدَّهاء الأمريكي عَنْ تَصْوير الإسلام؛ باعتباره هَذَا العَدُو الجديد القادم من عَبَاءة التَّاريخ البعيد. وتمَّ حَشْدِ رجال الإعلام والمفكِّرين لإظهار الإسلام على غَيْر صُورته الحقيقيَّة، وتَصْوير المسلمين كوُحُوش بربريَّة قادمة لهَدْم الحضارة الغربيَّة؛ لتؤسِّس بذلك للعنصريَّة ضِدَّ المسلمين في المجتمَعَات الغربيَّة، وتُثير الكراهية ضِدَّهم، في تحيُّز فاضح ضد المسلمين، ومن خِلال مُحاولات مُستميتة لشيْطَنَتِهم.

وتَعْمًد الأبواقُ الدَّائبة على تَشْويه صُورة الإسلام في الغَرْب، إلى الخلطِ المتعمَّد بين الإسلام بسماحته المعروفة، وبَيْن مُمارسات بعضِ مُعْتَنقيه من المتشدِّدين.

وقامَ المفكِّرون بطَرْح أفكارهِم السَّوداء حَوْل العَرَب والمسلمين؛ أمثال: صموئيل هنتجتون، في كتابه "صراع الحضارات"، والذي شكَّل أحد المراجع الأساسيَّة للمحافظين الجُدُد؛ مصوِّراً الإسلام كتهديدٍ للغرب ينْبَغي القضاءُ عليه.

فيْمَا أصْدَر المستشرقُ اليهوديُّ الأمريكيُّ برنارد لويس كتابه "أوروبا المسلمة"؛ ليقرعَ ناقوسَ الخَطَر مِنَ استقرارِ المسلمين في أوروبا، مُحذِّرا مِنْ أنَّ استمرارَ فَتْح أبوابِ الهِجْرة لهُم سيُتيح لهم السَّيْطرة على أوروبا؛ بالاعتماد على العامل الدِّيمُوغرافي، وتلقَّفتْ الأحزابُ اليمينيَّة المتطرِّفة في أوروبا هذا الخطاب العُنصريَّ لتنادي بطَرْد العَرَب والمسلمين، وتشديد قوانين الهجرة.

وليسَ بخافٍ على أحدٍ: دَوْر اللُّوبي الصُّهيوني في تأجِيْج العَدَاء للمسلمين في الغَرْب، وتشكيل صُورة قاتمة للعَرَب والمسلمين؛ باعتبارهم مَصْدَرًا للإرهاب.. فيما يُصِّور اللوبي ذاته إسرائيلَ كضحيَّة مُحاصَرَة من قِبَل المسلمين، في مُحاولة رخِيْصَة وغَيْر أمينة لاستدرار عَطْف الغَرْب وضَمَان استمراريَّة دَعْمِه اللا مَحْدُود لدولة الاحتلال.

ولعلَّ واحدًا مِنْ أهدافِ ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، هو تبريرُ الهُجوم على بلاد العَرَب والمسلمين؛ حيثُ قامتْ الولايات المتَّحدة بغَزْو أفغانستان، ومن بَعْدها العراق بمئات الألوف من الجُنود وآلة الحَرْب المتقدِّمة، تَحْت ذرائع مُعْلَنة واهية، ولكنَّنا نعلمُ أنَّ رهاب الإسلام كان ضِمْن الأهداف غَيْر المعلنة.

وتأصيلاً لجَذْوَة الخَوْف في نُفوس الغرب، نجدُ أنَّه يُواكب كلَّ حادثٍ إرهابيٍّ تغطيةٌ إخباريَّة مُستمرَّة، يُستضاف فيها الخبراءُ والأكاديميون والمستشرقون؛ ليَقُوْموا بالرَّبط بين الإسلام والإرهاب، عَبْر خطابٍ أكاديميٍّ مُؤَدْلَج، ويتمُّ تفسيرٌ النُّصوص القرآنيَّة والسِّيْرة النبويَّة الشَّريفة خارج سِيَاقها التَّاريخي؛ لإقناعِ الرَّأي العام الغربيِّ والعالميِّ بأهميَّة الحَذَر من المسلمين؛ لأنَّهم عِبَارة عن "خلايا نَائمة" كما عبَّر أحدُ الخبراء مُؤخراً؛ في تعلِيْقه على حَادثة مجلَّة "شارلي إيبدو" الفرنسيَّة.

والمفارقة: أنَّ العديدَ مِنَ التنظيماتِ الإسلاميَّة المتطرِّفة -مثل: القاعدة- مَدْعُومة أصلاً من المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة، وتمَّ استخدامها خلال الحَرْب الباردة للقتالِ ضدَّ الاتحادِ السُّوفييتي في أفغانستان. وعملتْ بعضُ الحُكومات العربيَّة المحافظة على تَسْهِيل وُصُول آلاف الشَّباب العربي إلى جَبَهَات القتال في أفغانستان، تحت شعار "الجهاد الإسلامي". وقد أبْلَى الشبابُ العربيُّ والمسلمُ بلاءً حسنا -إلى جانب إخوانهم الأفغان- حتى تمَّت هزيمة الاتحاد السوفييتي، دُوْن أنْ تَخْسَر الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة قَطْرة دمٍ واحدة.. إنَّها لُعبة السياسة وحياكة الإستراتيجيَّات والأجندات الخبيثة؛ لتحقيق الأهداف بدهاء.

وبَيْن ليلةٍ وضُحَاهَا، وَصَمَ الغربُ مَنْ كانَ يُسمِّيهم بالمجاهدين والأبطال، بصِفَة "الإرهابيين المطلوبين للعدالة"؛ ليتمَّ تسليمُ ملفَّاتهم وأسمائهم إلى دولهم لمتابعتهم والحُكم عليهم بالسجن، بعد أنْ انتهتْ مُهمَّتهم في مُحاربة الاتحاد السوفييتي، وانتقل هؤلاء الشَّباب إلى أوْطَانِهم، حامليْن أفكارَ التطرُّف والتكفير، كما وَاجَهُوا صُعُوبات في الانسجام مع المجتمعات المدنيَّة، وغذَّت مَظَاهر احتجاجهم العنيفة ظاهرةُ الخَوْف من الإسلام؛ لتبلغَ ذروتها في أحداثِ الحادي عشر من سبتمبر، التي نُسبتْ إلى تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن؛ لتكونَ ذريعةً للغربِ لممارسةِ صُنوف العَسْف والعُنْصريَّة على المسلمين المقيمين فيه.

ومن هُنا، فقد عزَّزت الجماعات الإسلاميَّة المتطرِّفة الأفكارَ السلبيَّة حول الإسلام، وساهمتْ في أن تتصدَّر عناوين الصُّحف الغربيَّة مُصطلحات الإرهاب الإسلامي، وعمل كبارُ الصَّحفيين الغربيين على تكريس هذه الصُّورة النمطيَّة في تحليلاتهم وكتاباتهم، وقد كتبَ تُوماس فريدمان -قبل أيام- في الـ"نيويورك تايمز" حول أحداث باريس الأخيرة؛ ليخلُص إلى القَوْل: إنَّ للإسلام الجهادي جذورًا ونصوصًا في القرآن الكريم. وكأن كلَّ مُسلم على وَجْه الأرض مسؤولٌ عن حادثة مجلة "شارلي إيبدو"، فيما نعلم أنَّ الحادث عملٌ فرديٌّ قام به مُواطنان فرنسيَّان من أصولٍ جزائريَّة، بعد أنْ استفزَّتهما الرُّسوم المسيئة للرسول، ناهيك عن تساؤلات كثيرة تُثيرها الحادثة، ولا يُمكن بأيِّ حال من الأحوال إلصاق التُّهمة تجنِّيا على أكثر من مليار مُسلم، كما لا يُمكن قَبُول أطرُوحات فريدمان وغيره من الكُتَّاب الغربيين، بأنَّ المجتمعات السُّنيَّة العربيَّة تُصدِّر وتنتجُ التطرُّف.

وهي أُطروحات وأفكارٌ تصبُّ في ظاهرة الإسلاموفوبيا، وتندرجُ في إطار سياسة التضليل التي يتَّبعُها الإعلامُ الغربيُّ لخدمة المصالح الاستعماريَّة الغربيَّة.

فعلى الغربِ الإقرار بأنَّ التطرُّف موجودٌ في كلِّ الشُّعوب والدِّيانات، ولا يقتصرُ على المسلمين؛ فهناك تطرُّف يهودي ومسيحي وهندوسي، لكنَّه مسكوتٌ عنه، فيما أي حادث يرتبط بالعرب والمسلمين يتمُّ تضخيمه إعلاميًّا، وإبرازه، واستدعاء المحلِّلين والخبراء للحديث عن خُطورة المسلمين على الحضارة الغربيَّة.. فيما يُغْمِضُ الغربُ عينيه ويصمُّ أذنيه، عن إرهاب الدَّولة الذي تُمارسه إسرائيل على مَدَى ستِّين عامًا بقتل الفلسطينيين، وتهجيرهم من أراضيهم، وممارسة أبشع أنواع الإرهاب عليهم.

ونتيجة لتنامي ظَاهرة الخَوْف من الإسلام، تتزايدُ جَرَائم الكراهية ضد العَرَب والمسلمين في أوروبا؛ لدرجة أنَّه وصل الأمرُ في بعض الدُّول الغربيَّة إلى وَضْع كاميرات للمراقبة في الكثير من المساجد؛ في مٌخالفة صَرِيْحة للأعراف والقوانين.

... لقد نَجَح اليهودُ في الغَرْب في إصْدَار تشريعات وقوانين تحمِيْهم لمواجهة ظاهرة "العداء للسامية"؛ حيثُ يتمُّ تجريمُ كلَّ مَنْ يُعاديهم أو ينتقدهم، وهكذا تمَّت مثلاً مُحاكمة الكاتب اليهودي البريطاني الجنسية جُون روز؛ لتأليفه كتاب "الأساطير الصهيونية"، كما تمَّت مُضايقة العديد من الفنانين والمثقَّفين المتعاطفين مع القضيَّة الفلسطينيَّة تحت ستار "العداء للسامية". والخلاصة: أنَّ ما ينجمُ عن "الإسلاموفوبيا" من أعمال ونتائج، تساهم -في مُحصِّلتها النهائيَّة- في تعميق الفَجْوة بين الجانبين، وتزيدُ من استهدافات المتشدِّدين لأهداف غربية. وفي الوقت ذاته، تُوفِّر ذرائعَ يتَّخذها الغربُ مبرِّرا للمزيدِ من القتل والاضطهاد المسلمين.

وإليكم نَذْرٌ من هذه النتائج: أطلق جُورج بوش حملته العسكريَّة "الحرب ضد الإرهاب"، وللمفارقة نجد أنَّها ساهمت في تمدُّد وانتشار المتشدِّدين، واستفحال خلاياهم في العراق وسوريا وليبيا واليمن وباكستان وأفغانستان. وهذا المثالُ فقط يكفي للتدليل على أنَّ مثل هذه الحملات المشبوهة ليس هدفها القضاء على الإرهاب، وإنَّما تدميرُ مقدِّرات الشعوب بشكل انتقائي، ونشر الفوضى التي وَصَفُوها بأنها "خلاقة".

وللأسف، لقد ساهمتْ التنظيمات الإسلاميَّة المتطرِّفة في تحقيق أهداف الاستعمار الجديد؛ بجرِّ بعضِ الشباب العَرَبي المسلم إلى شَرَك التشدُّد، والانشغال في معارك هامشيَّة في عدَّة جبهات؛ عِوَضًا عن الانخراط في بناء أوطانهم.

ما الحلُّ إذن أمام هذا الوَضْع المتفجِّر، والفجوات التي تزدادُ اتساعًا عامًا بعد آخر؟!

أعتقدُ أنَّ الحلَّ يكمُنُ في أن ينظرَ الغربُ بموضوعيَّة للإسلام، وأن ينزعَ عنه قناعَ العدائيَّة في تعامُله مع مُعْتَنقي هذا الدِّين القيِّم، والابتعاد عن التعميم المخل، وإصدار الأحكام المسبقة التي تمس مشاعر أكثر من مليار مسلم يعيش الكثير منهم في الغرب.

ينبغي أنْ نسحبَ البُسَاطَ من تَحْت أقدام المتشدِّدين في كلا الجانبين؛ لتسودَ قيمُ التسامح، وتنفتحُ آفاقٌ جديدة ورَحْبَة للتعايش والسَّلام في العالم.

تعليق عبر الفيس بوك