الدور التعليمي للأسرة في الألفية الثالثة

د. رضية بنت سليمان الحبسية

يمثل الدور التعليمي للأسرة تجاه تعليم أبنائهم قضية معاصرة، لتظهر أصوات معبرة عن ذلك الدور بين الواقع والمأمول، في أوساط المعنيين من تربويين وأولياء أمور الطلاب. حيث تسلط المقالة الحالية الضوء على الواقع الحالي لدور الأسرة التعليمي، ودعوة لتطوير ذلك الدور في ضوء معطيات العصر وبما يلبي متطلبات الألفية الثالثة.

إن الواقع يشير إلى صورة مأساوية للدور التعليمي الذي تقوم به الأسرة اليوم، وفي مقدمتها الأم، الذي يتفاقم الوضع فيه مع الأم العاملة؛ حيث تتعدد الأدوار المطالبة بها في ذات الوقت، بين أدوارها الوظيفية، ودورها الأسري، والمجتمعي أيضًا، وهذا ما يفسر ضجر وشكوى الأمهات العاملات على وجه الخصوص، من الحالة التي وصلن إليها، ولربما يكون مُبررًا للخروج المبكر للتقاعد، خاصةً التربويات منهن، كما يمكن الجزم بأن الكثير من الأمراض الجسدية التي تعاني منها المرأة تعود لأسباب نفسية، نتيجة الضغوط المحيطة بها من كل حدبٍ وصوب، ولا يخفى على أحد اليوم- وهو ما تؤكده العديد من التقارير التي يتم نشرها- بأن كثيرا من الأمراض العضوية، ذات علاقة بالضغوط النفسية.

فمن خلال ما تم رصده وملاحظته خلال السنوات الماضية، نلمس حجم الضغوط النفسية التي تعيشها الأم جرّاء مسؤولية تعليم أبنائها في المنزل، وأقول تعليم وليس توجيه وإرشاد، وهو من المفاهيم الخاطئة لدور الأسرة في هذا الجانب، حيث أصبحت الأم مطالبة بالقيام بهذا الدور فور عودتها من عملها الرسمي، لتتسلم دوامًا آخر منزلياً، قد يستمر حتى العاشرة مساء للاتي لديهن ما يقارب(5- 8) أطفال جميعهم دون التعليم الجامعي، ولا يقتصر هذا الدور على أيام الامتحانات فحسب، بل الحال يُعبر عن استمراريته، ليصبح برنامجًا يوميًا داخل الأسرة، وقد يتضاعف هذا الدور في حال ظروف عمل الأب في بلد غير بلده، الذي يُلقي بأعباء مسؤولية الأبناء كاملةً على الأم وحدها، مع الإشارة إلى أنَّ ذلك الدور الأسري لا يتعدى سوى محاولات التحفيظ والتكرار والتلقين، وهو ما يتنافى مع أساليب التدريس الحديثة، التي تجعل من المتعلم متمكنًا من المهارات الحياتية ومهارات القرن الحادي والعشرين، ممتلكًا لمهارات المستقبل، التي تجعله مواطنًا صالحًا منتجًا، يمتلك مواصفات جيل الألفية الثالثة.

ومما يمكن وصفه فعليًا في هذا الواقع، أن الأم إن كانت تربوية، فهي تفتح مدرسة مجانية لأطفالها ما بعد المدرسة، وإن كانت موظفة في مؤسسات أخرى، فهي تقوم بتقديم دروس خصوصية مجانية لأبنائها في كافة التخصصات، مفتقرةً للأساليب التربوية المناسبة، سواء متقنة لتلك المقررات الدراسية من عدمه، مما يلقي عبئا أكبر عليها، يتطلب معه دراسة مقررات جميع المواد، ولمختلف الصفوف قبل بدء جلسات الدراسة المنزلية، أو إلحاق أبنائها بدروس خصوصية يقدمها أساتذة مختصون، تُكلف الأسرة مصاريف إضافية، والتي لم تقتصر على طلاب دبلوم التعليم العام، بل تمتد لتشمل طلاب مرحلة التعليم الأساسي في الصفوف من الأول وحتى الحادي عشر، مما يقود إلى صراعات مستمرة بين المدرسة والمنزل واتهامات متبادلة بالتقصير في قيام كل طرف بدوره ومسؤوليته الصحيحة تجاه تعلم الطلاب، والمناداة بضرورة تفعيل التعاون بين المدرسة والمنزل في تعليم فعّال للطلاب، مع غياب الفهم الصحيح لطبيعة التعاون المطلوب بين كافة الأطراف، لدى الكثير من ذوي العلاقة من التربويين وأولياء الأمور.

ومن تلك الصور، وصور أخرى مماثلة، نستطيع أن ندرك واقع الأسرة المعيشي في ظل هذه الظروف، وانعكاساتها على مزاج الأم وتقلباته، وطريقة تعاملها مع أبنائها التي لا تخلو من العصبية والنزاعات، أو تأثر علاقتها بشريك حياتها؛ نتيجة غلبة جانب على جانب آخر مُكرهةً، وقد يمتد الحال للتقصير في حق والديها من الزيارة وتقديم الرعاية، أو أية أدوار أخرى مجتمعية. لذا نجد أن استمرار الأم العاملة في عملها خارج المنزل يأخذ صورتين أساسيتين، هما: أن تستمر في العمل برغم تلك المسؤوليات المتعددة، التي تمثل مصدرًا مهمًا للضغوط النفسية، كونها تجد الخروج للعمل متنفسًا لها ولو لساعات محددة يوميا، أو أن ظروف الأسرة المالية تجبرها على الاستمرار لتأمين المتطلبات الأساسية لأطفالها، خاصةً إن كانت الأم هي المعيل الوحيد للأسرة، سواء أكانت أرملة أو تعيش ظروف تفكك أسري معين.

ومع تلك الأسباب والظروف، فإن ذلك حتمًا سينعكس على شخصيات الأبناء سلبًا، من حيث الإتكالية كليةً على الأم في استذكار وتحضير الدروس، فينشأ جيل غير قادر على تحمل مسؤولية تعلمه أو قراراته، حيث ينتظر الطفل مبادرةً وتنفيذا من الأم في كافة المواقف التعليمية، بحيث يذهب لمدرسته مستعدًا، أو أن يكون قادرا على التميز أثناء الحصص الدراسية، وفي حال تعرض الأم لظروف استثنائية تعيق قيامها بدورها المعتاد، يفشل الأبناء في الاعتماد على أنفسهم، فيظهر ذلك في مستوياتهم التحصيلية المغايرة للظروف الطبيعية.

ومن هنا نوجه إلى ضرورة دراسة هذا الواقع بشيء من التمحيص والتقصي، على أيدي مختصين تربويين (الإداري، والتعليمي، الاجتماعي، والنفسي)، ومختصين من القطاع الصحي، (الاختصاصي النفسي، والطبي التخصصي)، والعمل كفرق بحثية مشتركة متعددة التخصصات؛ للإحاطة بهذه الإشكالية من كافة جوانبها، والوقوف على مسبباتها، وآثارها، والبحث عن حلول منطقية وإجرائية للتغلب عليها، وتحرير الأم والأسرة بأكملها مما آل إليه الحال من الممارسات غير المرغوبة وغير الحضارية في الدور التعليمي للأسرة.

كما نوجه إلى أهمية مراجعة المؤسسات التعليمية لطبيعة المناهج الدراسية، من حيث الكم والنوع الذي يقدم للطلاب في مختلف المراحل الدراسية، والبحث عن الأسباب التي تجعل من المدرسة غير قادرة على التكفل بتحقيق الأهداف التعليمية- خاصة لطلاب الحلقة الأولى من التعليم الأساسي- دون الحاجة لإكمال تلك الدروس في المنزل، وهو ما يخالف أساسيات ومنطلقات التعليم الأساسي عالميا، والذي تستشعره الأسر التربوية قبل غيرها من الأسر، إذ يمثل ذلك واقعًا معايشًا لدى الغالبية العظمى منها، حين يجدون أنفسهم مضطرين للقيام بنفس الدور التعليمي مع أطفالهم من تدريس ومتابعة وتقييم... إلخ خارج ساعات الدوام الرسمي.

كذلك التوجيه لقطاع الإشراف التربوي في متابعة حثيثة لآليات تنفيذ الدروس في المدارس، والالتزام بمنهجيات وأساليب وطرق التعلم والتعليم الحديثة، إضافة إلى القطاع المعني بالتقويم التربوي، في متابعة المدارس لأساليب التقويم الحديثة، التي تتماشى مع مخرجات الألفية الثالثة، وتحقق متطلبات رؤية "عُمان 2040"، والتركيز على إكساب الطلاب مهارات المستقبل التي تجعلهم قادرين على تحقيق التميز والتنافسية عالميا، وبما يحقق أبعاد وأهداف التنمية المستدامة على مستوى المدارس والمجتمع المحلي.

ويمتد التوجيه للإدارة المدرسية والطاقم التدريسي بأكمله، بضرورة تقييم ومراجعة ذاتية لممارساتهم التدريسية، ونوعية الأنشطة الصفية واللاصفية التي يُكلف بها الطالب، ومدى مواءمتها لمواصفات خريج المستقبل، ومدى امتلاكه لتلك المهارات التي حددها الإطار الوطني لمهارت المستقبل، الصادر عن وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار 2021م، مع ضرورة تقديم التقارير السنوية التي تعكس الواقع الفعلي للتعليم في المدارس للمديريات التعليمية بالمحافظات، التي بدورها مطالبة برفعها للجهات المختصة بالوزارة، لتتسلم المديريات المختصة بالوزارة مهمة دراسة تلك التقارير واتخاذ القرارات السريعة لتطوير ذلك الواقع، بما يخفف العبء عن إدارات المدارس وأولياء الأمور على حدّ سواء، وبما يحقق فلسفة التعليم، واستراتيجية التعليم 2040.

كما نوصي بضرورة عقد حلقات نقاشية، ومحاضرات توعوية لأولياء الأمور حول الدور التعليمي الجديد المطلوب منهم، الذي يتمثل في دور التنظيم والتوجيه والمتابعة لمساعدتهم أبنائهم على تحقيق أهداف التعلم، وتذليل الصعوبات والمعيقات التي تعتري تقدمهم الدراسي، خاصة في حال وجود حالات طلابية تعاني من صعوبات التعلم، وتعزيز قدرات الأبناء العقلية بالتركيز على نوعية الألعاب التعليمية التي تُثري تعلمهم، بالإضافة إلى تهيئة الظروف البيئية اللوجستية والنفسية لبيئة تعلم مناسبة، مع تغيير الواقع الحالي تدريجيا مع الأبناء إلى الدور الجديد للأسرة اتجاه تعليمهم.

ونختتم هذه المقالة، بالتأكيد على إعادة النظر في الدور التعليمي الحالي الذي تقوم به الأسرة اتجاه تعلم أبنائها؛ بما يحقق الاستقرار النفسي والاعتدال المعيشي لجميع أفراد الأسرة؛ حيث إن الغلو في ممارسة ذلك الدور، يُفضي إلى مشكلات صحية، وأسرية، ومجتمعية؛ نتيجة تراكمات مستمرة من الضغوط المتعددة المصادر على أولياء الأمور، والذي حتمًا يوثر على تنشئة الأبناء التنشئة السويّة، التي يجب أن تجعل منهم أفرادًا أصحاء نفسيًّا، ممتلكين لمهارات فردية تعينهم على الاختيار الصحيح لمسيرتهم المستقبلية التعليمية والعملية، يمتلكون المهارات القيادية واللغوية والتواصلية، كمخرجات تعليمية تمتلك ممكنات تحقيق الميزة التنافسية، المأمولة منهم للمساهمة الجادة في تحقيق رؤية "عُمان 2040".

** أستاذ الإدارة التربوية المساعد بجامعة نزوى

تعليق عبر الفيس بوك