الاقتصاد الرقمي

حاتم الطائي

◄ الاقتصاد الرقمي يرسخ تقدمنا القائم على التوظيف الأمثل للتكنولوجيا

◄ بناء مدن ذكية مستدامة من أبرز أهداف الاقتصاد الرقمي

◄ ضرورة التوسع في الدفع الإلكتروني عبر البنوك الوطنية بدلا من الشبكات الدولية

وفقًا لتعريفات عدة مُستندة إلى مصادر متنوعة، يُعرَّف الاقتصاد الرقمي ببساطة على أنَّه الاقتصاد القائم على التقنيات الرقمية والتكنولوجية، مستفيدًا أولًا من البنية الأساسية من إنترنت وخطوط اتصال فائقة السرعة، وثانيًا من الأجهزة والمعدات المنتشرة في أنحاء العالم من حواسيب وأجهزة عملاقة تعمل بهذه التكنولوجيات المتطورة، وثالثًا من البرمجيات التي تشهد تطورًا يومًا تلو الآخر.

وقبل أيام اعتمد مجلس الوزراء المُوقر "البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي"، في خُطوة مُهمة تُمثل تقدمًا نوعيًا في الرؤية الوطنية لمسيرة تقدمنا المعرفي القائم على توظيف التكنولوجيا، فبعد أن دشنت السلطنة في عام 2003 "استراتيجية عمان الرقمية" يأتي البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي بعد 18 عامًا لتحلق عُمان عاليًا في سماء التقدم التكنولوجي، تماشيًا مع أهداف رؤية "عُمان 2040"، بما يخدم التطلعات المستقبلية لبناء اقتصاد نامٍ ومُزدهر يستفيد من أدوات العصر. وأهمية هذا الاقتصاد الرقمي تنبع من كونه يُسهم في توطين الصناعات، عبر الاستفادة من الكفاءات الوطنية المتميزة، والتي تلقت تعليمها في أفضل الجامعات الوطنية والأجنبية، ومن ثم الاستفادة من هذه المقومات والركائز لاستخراج قيمة محلية مضافة من الأنشطة القائمة على هذا النوع من الاقتصاد، فضلاً عن زيادة مصادر الدخل القومي، من خلال إيجاد قنوات تمويلية وعائدات تُسهم في استدامة الموارد المالية، والأهم من ذلك أيضًا ترسيخ الشراكة بين المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص. كل هذه الأهداف تتواءم مع الأهداف المرحلية والمُستقبلية للرُّؤية الوطنية "عُمان 2040"؛ فهذه الرؤية شاملة جامعة، فهي ليست رؤية اقتصادية فقط، لكنها أيضًا رؤية تسعى للاستفادة من التطور التقني وتوظيفه لخدمة جميع الأهداف ومنها الأهداف الاجتماعية والثقافية والمعرفية.

ومن خلال تتبعنا لطبيعة الاقتصاد الرقمي وجدتُ أننا يمكن أن نستفيد منه في تحقيق 3 أهداف رئيسية:

الأول: التحول نحو المدن الذكية المُستدامة، وبلادنا قادرة على ذلك التحول؛ إذ نملك البنية الأساسية من خطوط إنترنت فائقة السرعة (الألياف البصرية)، وشبكات تغطية في كل مكان، فضلا عن البرمجيات المُعززة لذلك الهدف، وهي متاحة وتطبقها بعض المؤسسات، وتعتمد في الأساس على توظيف التكنولوجيا لإدارة العمل في مُختلف جوانبه. والمدن الذكية قادرة على الاستفادة من كل التقنيات لتحسين جودة الحياة، وتعزيز سبل العيش فيها، ليس فقط من ناحية العمل والإنتاج؛ بل أيضًا فيما يتعلق بالحياة الاجتماعية للأشخاص. ولعل أهم فائدة من هذه المدن، تطبيق مبدأ الاستدامة والإسهام في الحفاظ على البيئة وصونها، من خلال الحد من المخلفات والتوسع في عمليات إعادة التدوير.

الثاني: التطوير المستمر لبنية الإنترنت، فالاقتصاد الرقمي سيلزم الجهات المعنية بقطاع الاتصالات وتقنية المعلومات، بالعمل المتواصل لتطوير البنية الأساسية للإنترنت، كما يمكن أن يفتح المجال أمام تحول السلطنة نحو مركز إقليمي للخدمات الرقمية، وعلى رأسها الخدمات السحابية، وشركة عُمان داتا بارك خير مثال على هذا الدور الذي يمكن أن تقوم به مؤسسات القطاع الخاص؛ إذ إنه بفضل الإمكانيات المتقدمة لدى هذه الشركات، تستطيع السلطنة أن توفر تلك الخدمات بمميزات تنافسية، خاصة وأننا الآن في مرحلة انفتاح كبير على الاقتصادات الإقليمية والعالمية، وما الشراكات الإقليمية إلا ترجمة لهذا الانفتاح.

الثالث: زيادة التخصصات الجامعية في مجالات العلوم الرقمية، وهنا أتحدث بالتحديد عن الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، وهما تخصصان بالغا الأهمية، فمن خلالهما نتمكن من الاستفادة من خدمات الاقتصاد الرقمي، وهذه الخدمات لا أقصدُ بها الخدمات الإلكترونية أو المحطة الواحدة أو تطبيقات الهواتف، فهذه الخدمات تمثل جزءًا يسيرًا من الاقتصاد الرقمي. وقد أحسنت مؤسسات أكاديمية في السلطنة بطرح تخصصات الذكاء الاصطناعي، مثل الجامعة الألمانية للتكنولوجيا في عُمان "جيوتك"، لكن الأمل معقود على أن تتوسع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار في طرح مثل هذه التخصصات، بل وإنشاء كليات متخصصة في الذكاء الاصطناعي وحسب، وهذا معمول به في العديد من الدول، وشبابنا مستعد وراغب في دراسة هذه التخصصات والتفوق فيها.

يبقى أن أشير إلى عدد من الجوانب الأخرى المهمة لتحقيق الانطلاقة الكاملة نحو الاقتصاد الرقمي، وهي الأمن السيبراني، فالشاهد أنَّه كلما تقدمت التكنولوجيا المُفيدة للبشرية، تقدمت التكنولوجيا الضارة والخبيثة، الأمر الذي يستدعي العمل على مسارين متوازيين؛ الأول: تطوير البرمجيات المفيدة التي تخدم مسيرة الاقتصاد الرقمي ورقمنة الأعمال وتعزيز خدمات التجارة الإلكترونية والتحول نحو الصناعات الرقمية المتقدمة. والثاني: التوسع في استراتيجيات وتطبيقات الأمن السيبراني، خصوصا مع انتشار برامج الفدية الخبيثة وعمليات القرصنة المتجاوزة للحدود والتي لم يعد يقوم بها أفراد أو لصوص؛ بل تقف وراءها دول وأجهزة على أعلى مستوى.

كما ينبغي العناية بتطبيقات "الفينتك" أو الخدمات المالية الرقمية، والتي تعتمد على خوارزميات ذكية تُدير عمليات الاستثمار والإدارة المالية بطريقة إلكترونية، ومن بينها عمليات الدفع الإلكتروني، التي يجب أن تتم من خلال البنوك الوطنية، مع تقليل الاعتماد على الشبكات الدولية في المدفوعات الرقمية، وهنا يعوّل بدور كبير على البنك المركزي العُماني، وهي مسؤولية نؤمن بأنَّ قيادة البنك المركزي وكوادره، قادرون عليها.

أيضًا علينا التوسع في تطبيقات البلوكتشين (سلاسل الكتل) لإنجاز المعاملات، وخاصة المعاملات التي تتداخل في تقديمها عدة جهات، وقد بدأ عدد من الشركات، وخاصة شركات النفط، في تطبيق هذه التقنيات، لكن ما زال الأمر محدودًا إلى الآن.

وختامًا.. إن توظيف تقنيات الثورة الصناعية الرابعة لإحداث التحول الرقمي المنشود، سيُعزز من كفاءة الأداء الحكومي وفي كل مؤسسات الدولة العامة والخاصة، فضلاً عن دوره في جذب الاستثمارات- لاسيما التقنية منها- إلى السلطنة، وتوطين الصناعات الرقمية، وتعزيز تنافسية السلطنة بما يُحقق الأهداف المُستقبلية، خاصة إذا ما علمنا أنَّ البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي يستهدف وصول إسهام هذا الاقتصاد في الناتج المحلي الإجمالي إلى 10% بحلول 2040، وهذه نسبة ليست بالقليلة إذا ما بلغناها في غضون السنوات المُقبلة.